ذكر تصريف الامور

اللهم صلي علي محمد و آل محمد صلاة تنجنا بها من جميع الأهوال والآفات وتقضي لنا بها جميع الحاجات/واتلو: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا 11 مرة والاستغفار 7 مرات يعد صلاة العشاء

Translate {الترجمة لاي لغة} ابود

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 31 يناير 2024

تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار (الجزء الثاني) لابن بطوطة

 

تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار 


(الجزء الثاني) لابن بطوطة
 

المحتويات

        ذكر البريد
        ذكر الكركدن
        ذكر السفر في نهر السند وترتيب ذلك
        ذكر غريبة رأيتها بخارج هذه المدينة
        مكرمة لهذا الملك
        ذكر أمير ملتان وترتيب حاله
        ذكر من اجتمعت به في هذه المدينة من الغرباء 

 
تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار 

(الجزء الثاني) الجزء الثاني

    بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة رحمه الله تعالى: ولما كان بتاريخ الغرة من شهر محرم مفتتح عام أربعة وثلاثين وسبعمائة وصلنا إلى وادي السند المعروف ببنج آب، ومعنى ذلك المياه الخمسة. وهذا الوادي من أعظم أودية الدنيا، وهو يفيض في أوان الحر، فيزرع أهل تلك البلاد على فيضه، كما يفعل أهل الديار المصرية في فيض النيل. وهذا الوادي هو أول عمالة السلطان المعظم محمد شاه ملك الهند والسند. ولما وصلنا إلى هذا النهر جاء إلينا أصحاب الأخبار الموكلون بذلك، وكتبوا بخبرنا إلى قطب الملك أمير مدينة ملتان، وكان أمير أمراء السند على هذا العهد مملوك للسلطان يسمى سرتيز، وهو من عرض المماليك، وبين يديه تعرض عساكر السلطان، ومعنى اسمه الحاد الرأس لأن سر بفتح السين المهملة وسكون الراء. هو الرأس، وتيز بتاء معلوة وياء مد وزاي معناه الحاد. وكان في حين قدومنا بمدينة سيوستان من السند. وبينها وبين ملتان مسيرة عشرة أيام، وبين بلاد السند وحضرة السلطان مدينة دهلي على مسيرة خمسين يوما. وإذا كتب المخبرون إلى السلطان من بلاد السند يصل الكتاب إليه في خمسة أيام بسبب البريد. ذكر البريد والبريد ببلاد الهند صنفان، فأما بريد الخيل فيسمونه الولاق أولاق بضم الواو وآخره قاف ، وهو خيل تكون للسلطان، في كل مسافة أربعة أميال، وأما بريد الرجالة، فيكون في مسافة الميل الواحد منه ثلاث رتب، ويسمونها الداوة بالدال المهمل والواو ، والداوة هي ثلث ميل، والميل عندهم يسمى الكروة بضم الكاف والراء ، وترتيب ذلك أن يكون في كل ثلث ميل قرية معمورة، ويكون بخارجها ثلاث قباب يقعد فيها الرجال، مستعدين للحركة، قد شدوا أوساطهم. وعند كل واحد منهم مقرعة مقدار ذراعين، بأعلاها جلاجل نحاس، فإذا خرج البريد من المدينة أخذ الكتاب بأعلى يده والمقرعة ذات الجلاجل باليد الأخرى يشتد بمنتهى جهده. فإذا سمع الرجال الذين بالقباب صوت الجلاجل تأهبوا. فإذا وصلهم. أخذ أحدهم الكتاب من يده ومر بأقصى جهده، وهو يحرك المقرعة حتى يصل إلى الداوة الأخرى. ولا يزالون كذلك حتى يصل الكتاب إلى حيث يراد منه. وهذا البريد أسرع من بريد الخيل وربما حملوا على هذا البريد الفواكه المستطرفة بالهند من فواكه خراسان يجعلونها في الأطباق، ويشتدون بها حتى تصل إلى السلطان. وكذلك يحملون الكبار من ذوي الرتب، يجعلون الرجل على سرير، ويرفعونه فوق رؤوسهم ويسيرون به شدا. وكذلك يحملون الماء لشرب السلطان، إذا كان بدولة أباد، يحملونه من نهر الكنك الذي تحج الهنود إليه، وهو على مسيرة أربعين يوما منها. صفحة : 196 وإذا كتب المخبرون إلى السلطان بخبر من يصل إلى بلاده، استوعبوا الكتاب وأمعنوا في ذلك، وعرفوه أنه ورد رجل صورته كذا ولباسه كذا، وكتبوا عدد أصحابه وغلمانه وخدامه ودوابه، وترتيب حاله في حركته وسكونه، وجميع تصرفاته لا يغادرون من ذلك كله شيئا. فإذا وصل الوارد مدينة ملتان، وهي قاعدة بلاد السند، أقام بها حتى ينفذ أمر السلطان بقدومه، وما يجري له من الضيافة، وإنما يكرم الإنسان هنالك بقدر ما يظهر من أفعاله وتصرفاته وهمته، إذ لا يعرف هنالك ما حسبه ولا آباؤه. من عادة ملك الهند السلطان أبي المجاهد محمد شاه إكرام الغرباء ومحبتهم وتخصيصهم بالولايات والمراتب الرفيعة. ومعظم خواصه وحجابه ووزرائه وقضاته وأصهاره غرباء. ونفذ أمره بأن يسمى الغرباء في بلده الأعزة. فصار لهم ذلك اسما وعلما. ولا بد لكل قادم على هذا الملك من هدية يهديها إليه، ويقدمها وسيلة بين يديه. فيكافئه السلطان عليها بأضعاف مضاعفة، وسيمر من ذكر هدايا الغرباء إليه كثير. ولما تعود الناس ذلك منه، صار التجار الذين ببلاد السند والهند يعطون لكل قادم على السلطان الآلاف من الدنانير دينا ويجهزونه بما يريد أن يهديه إليه أو يتصرف فيه لنفسه من الدواب للركوب والجمال والأمتعة ويخدمونهم بأموالهم وأنفسهم، ويقفون بين يديه كالحشم، فإذا وصل إلى السلطان أعطاه العطاء الجزيل، فقضى ديونهم ووفاهم حقوقهم، فنفقت تجارتهم وكثرت أرباحهم. وصار لهم ذلك عادة مستمرة. ولما وصلت إلى بلاد السند، سلكت ذلك المنهج، واشتريت من التجار الخيل والجمال والمماليك وغير ذلك. ولقد اشتريت من تاجر عراقي من أهل تكريت يعرف بمحمد الدوري بمدينة غزنة نحو ثلاثين فرسا وجملا عليه حمل من النشاب، فإنه مما يهدى إلى السلطان، وذهب التاجر المذكور إلى خراسان ثم عاد إلى الهند، وهنالك تقاضى مني مائة، واستفاد بسببي فائدة عظيمة، وعاد من كبار التجار. ولقيته بمدينة حلب بعد سنين كثيرة. وقد سلبني الكفار ما كان بيدي فلم ألق منه خيرا. ذكر الكركدن ولما أجزنا نهر السند المعروف ببنج آب دخلنا غيضة قصب لسلوك الطريق لأنه في وسطها، فخرج علينا الكركدن، وصورته أنه حيوان أسود اللون عظيم الجرم، ورأسه كبير متفاوت الضخامة، ولذلك يضرب به المثل فيقال: الكركدن رأس بلا بدن، وهو دون الفيل ورأسه أكبر من رأس الفيل بأضعاف. وله قرن واحد بين عينيه، طوله نحو ثلاثة أذرع، وعرضه نحو الشبر. ولما خرج علينا عارضه بعض الفرسان في طريقه فضرب الفرس الذي كان تحته بقرنه فأنفذ فخذه وصرعه، وعاد إلى الغيضة فلم نقدر عليه. وقد رأيت الكركدن مرة ثانية في هذا الطريق بعد صلاة العصر، وهو يرعى نبات الأرض. فلما قصدناه هرب منا. ورأيته مرة أخرى ونحن مع ملك الهند، دخلنا غيضة قصب وركب السلطان على الفيل وركبنا معه الفيلة، ودخلت الرجالة والفرسان فأثاروه وقتلوه واستاقوا رأسه إلى المحلة. صفحة : 197 وسرنا من نهر السند يومين ووصلنا إلى مدينة جناني وضبط اسمها بفتح الجيم والنون الأولى وكسر الثانية مدينة كبيرة على ساحل نهر السند لها أسواق مليحة، وسكانها طائفة يقال لهم السامرة، استوطنوها قديما واستقر بها أسلافهم حين فتحها على أيام الحجاج بن يوسف، حسبما أثبت المؤرخون في فتح السند. وأخبرني الشيخ الإمام العالم العامل العابد الزاهد ركن الدين أبو الشيخ الفقيه الصالح شمس الدين ابن الشيخ الإمام العابد الزاهد بهاء الدين زكريا القرشي، وهو أحد الثلاثة الذين أخبرني الشيخ الولي الصالح برهان الدين الأعرج بمدينة الإسكندرية أني سألقاهم في رحلتي فلقيتهم والحمد لله، أن جده الأعلى كان يسمى بمحمد بن قاسم القرشي، وشهد فتح السند في العسكر الذي بعثه لذلك الحجاج بن يوسف أيام إماراته على العراق، وأقام بها وتكاثرت ذريته. وهؤلاء الطائفة المعرفون بالسامرة لا يأكلون مع أحد ولا ينظر إليهم أحد حين يأكلون، ولا يصاهرون أحدا من غيرهم، ولا يصاهر إليهم أحد. وكان لهم في هذا العهد أمير يسمى ونار بضم الواو وفتح النون ، وسنذكر خبره. ثم سافرنا من مدينة جناني إلى أن وصلنا إلى مدينة سيوستان وضبط اسمها بكسر السين الأول المهمل وياء مد وواو مفتوح وسين مكسور وتاء معلوة وآخره نون وهي مدينة كبيرة وخارجها صحراء ورمال، لا شجر بها إلا شجر أم غيلان. ولا يزرع على نهرها شيء ما عدا البطيخ. وطعامهم الذرة والجلبان ويسمونه المشنك بميم وشين معجم مضمومين ونون مسكن ، ومنه يصنعون الخبز، وهي كثيرة السمك والألبان الجاموسية. وأهلها يأكلون السقنقور، وهي دويبة شبيهة بأم حبين التي يسميها المغاربة حنيشة الجنة إلا أنها لا ذنب لها. ورأيتهم يحتفرون الرمل ويستخرجونها منه ويشقون بطنها ويرمون بما فيه ويحشونه بالكركم، وهم يسمونه زردشوبة، ومعناه العود الأصفر، وهو عندهم عوض الزعفران. ولما رأيت تلك الدويبة وهم يأكلونها استقذرتها فلم آكلها. ودخلنا هذه المدينة في احتدام القيظ وحرها الشديد. فكان أصحابي يقعدون عريانين، يجعل أحدهم فوطة على وسطه وفوطة على كتفيه مبلولة بالماء، فما يمضي اليسير من الزمان حتى تيبس تلك الفوطة، فيبلها مرة أخرى. وهكذا أبدا. ولقيت بهذه المدينة خطيبها المعروف بالشيباني، وأراني كتاب أمير المؤمنين الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لجده الأعلى بخطابة هذه المدينة. وهم يتوارثونها من ذلك العهد حتى الآن. ونص الكتاب: هذا ما أمر به عبد الله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز لفلان وتاريخه سنة تسع وتسعين، وعليه مكتوب بخط أمير المؤمنين لفلان عمر بن عبد العزيز الحمد لله وحده على ما أخبرني الخطيب المذكور. ولقيت بها الشيخ المعمر محمد البغدادي وهو بالزاوية التي على قبر الشيخ الصالح عثمان المرتدي. وذكر أن عمره يزيد على مائة وأربعين سنة، وأنه حضر مقتل المستعصم بالله آخر خلفاء بني العباس رضي الله عنهم لما قتله الكافر هلاون بن تنكيز التتري . وهذا الشيخ على كبر سنه قوي الجثة يتصرف على قدميه. صفحة : 198 كان يسكن بهذه المدينة الأمير ونار السامري الذي تقدم ذكره، والأمير قيصر الرومي، وهما في خدمة السلطان، ومعهما نحو ألف وثمانمئة فارس. وكان يسكن بها كافر من الهنود اسمه رتن بفتح الراء وبفتح التاء المعلوة والنون ، وهو من الحذاق بالحساب والكتابة. فوفد على ملك الهند مع بعض الأمراء، فاستحسنه السلطان وسماه عظيم السند، وولاه بتلك البلاد، وأقطعه سيوستان وأعمالها، وأعطاه المراتب، وهي الأطبال والعلامات كما يعطى كبار الأمراء. فلما وصل إلى تلك البلاد عظم على ونار وقيصر وغيرهم تقديم الكافر عليهم، فأجمعوا على قتله. فلما كان بعد أيام من قدومه أشاروا إليه بالخروج إلى أحواز المدينة ليتطلع على أمورها فخرج معهم. فلما جن الليل أقاموا ضجة بالمحلة، وزعموا أن السبع ضرب عليها. وقصدوا ضرب الكافر فقتلوه، وعادوا إلى المدينة فأخذوا ما كان بها من مال السلطان، وذلك اثنا عشر لكا واللك مائة ألف دينار، وصرف اللك عشرة آلاف دينار من ذهب الهند. وصرف الدينار الهندي ديناران ونصف دينار من ذهب المغرب. وقدموا على أنفسهم ونار المذكور، وسموه ملك فيروز، وقسم الأموال على العسكر. ثم خاف على نفسه لبعده عن قبيلته، فخرج فيمن معه من أقاربه، وقصد قبيلته، وقدم الباقون من العسكر على أنفسهم قيصر الرومي. واتصل خبرهم بعماد الملك سرتيز مملوك السلطان، وهو يومئذ أمير أمراء السند وسكناه بملتان. فجمع العساكر وتجهز في البر وفي نهر السند. وبين ملتان وسيوستان عشرة أيام، وخرج إليه قيصر، فوقع اللقاء وانهزم قيصر ومن معه أشنع هزيمة، وتحصنوا بالمدينة، فحاصرهم ونصب المجانيق عليهم، واشتد عليهم الحصار، فطلبوا الأمان بعد أربعين يوما من نزوله عليهم فأعطاهم الأمان. فلما نزلوا إليه غدرهم وأخذ أموالهم وأمر بقتلهم. فكان كل يوم يضرب أعناق بعضهم ويوسط البعض ويسلخ آخرين منهم ويملأ جلودهم تبنا ويعلقها على السور. فكانت تلك الجلود مصلوبة، ترعب من ينظر إليها. وجمع رؤوسهم في وسط المدينة، فكانت مثل التل هنالك. ونزلت بتلك المدينة إثر هذه الوقعة بمدرسة فيها كبيرة، وكنت أنام على سطحها فإذا استيقظت من الليل أرى تلك الجلود المصلوبة فتشمئز النفس منها، ولم تطب نفسي بالسكنى بالمدرسة فانتقلت عنها. وكان الفقيه الفاضل العادل علاء الملك الخراساني المعروف بفصيح الدين قاضي هراة في متقدم التاريخ، قد وفد على ملك الهند فولاه مدينة لاهري وأعمالها من بلاد السند، وحضر هذه الحركة مع عماد الملك سرتيز بمن معه من العساكر. فعزمت على السفر معه إلى مدينة لاهري. وكان له خمسة عشر مركبا قدم بها في نهر السند تحمل أثقاله فسافرت. ذكر السفر في نهر السند وترتيب ذلك صفحة : 199 وكان للفقيه علاء الملك في جملة سفنه سفينة تعرف بالأهورة بفتح الهمزة والهاء وسكون الواو وفتح الراء ، وهي نوع من الطريدة عندنا إلا أنها أوسع منها وأقصر وعلى نصفها مرعش من خشب يصعد له على درج، وفوقه مجلس مهيأ لجلوس الأمير، ويجلس أصحابه بين يديه. ويقف المماليك يمنة ويسرة، والرجال يقذفون وهم نحو أربعين. ويكون مع هذه الأهورة أربعة من السفن عن يمينها ويسارها، اثنان منها فيهما مراتب الأمير، وهي العلامات والطبول والأبواق والأنفار والصرنايات وهي الغيطات، والآخران فيهما أهل الطرب فتضرب الطبول والأبواق نوبة، ويغني المغنون نوبة. ولا يزالون كذلك من أول النهار إلى وقت الظهر. فإذا كان وقت الغداء اجتمعت المراكب، ووصل بعضها ببعض، ووضعت بينهما الإصقالات، وأتى أهل الطرب إلى أهورة الأمير، فيغنون إلى أن يفرغ من أكله، ثم يأكلون وإذا فرغوا من الأكل عادوا إلى سفنهم وشرعوا في المسير على ترتيبهم إلى الليل. فإذا كان الليل ضربت المحلة على شاطئ النهر ونزل الأمير إلى خيامه ومد السماط وحضر الطعام معظم العسكر، فإذا صلوا العشاء الأخيرة سمر السمار بالليل نوبا، فإذا أتم أهل النوبة منهم نوبتهم نادى مناد منهم بصوت عال يا خوند ملك، قد مضى من الليل كذا من الساعات ثم يسمر أهل النوبة الأخرى، فإذا أتموها نادى مناديهم أيضا معلما بما مر من الساعات. فإذا كان الصبح ضربت الأبواق والطبول وصليت صلاة الصبح وأتي بالطعام. فإذا فرغ الأكل، أخذوا في المسير. فإن أراد الأمير ركوب النهر ركب على ما ذكرناه من الترتيب، وإن أراد المسير في البر ضربت الأطبال والأبواق، وتقدم حجابه، ثم تلاهم المشاؤون بين يديه، ويكون بين أيدي الحجاب ستة من الفرسان، عند ثلاثة منهم أطبال قد تقلدوها وعند ثلاثة صرنايات. فإذا أقبلوا على قرية أو ما هو من الأرض مرتفع ضربوا تلك الأطبال والصرنايات. ثم تدق أطبال العسكر وأبواقه، ويكون عن يمين الحجاب ويسارهم المغنون يغنون نوبا، فإذا كان وقت الغداء نزلوا. وسافرت مع علاء الملك خمسة أيام، ووصلنا إلى موضع ولايته، وهو مدينة لاهري وضبط اسمها بفتح الهاء وكسر الراء مدينة حسنة على ساحل البحر الكبير، وبها يصب نهر السند في البحر، فيلتقي بها بحران، ولها مرسى عظيم، يأتي إليه أهل اليمن وأهل فارس وغيره. بذلك عظمت جباياتها وكثرت أموالها. أخبرني الأمير علاء الملك المذكور أن مجبي هذه المدينة ستون لكا في السنة، وقد ذكرنا مقدار اللك، وللأمير من ذلك نم نيم ده يك، ومعناه نصف العشر. وعلى ذلك يعطي السلطان البلاد لعماله يأخذون منها لأنفسهم نصف العشر. ذكر غريبة رأيتها بخارج هذه المدينة وركبت يوما مع علاء الملك فانتهينا إلى بسيط من الأرض على مسافة سبعة أميال منها يعرف بتارنا، فرأيت هنالك ما لا يحصره العد من الحجارة على مثل صور الآدميين والبهائم، وقد تغير كثير منها ودثرت أشكاله، فيبقى منه صورة رأس أو رجل أو سواهما. ومن الحجارة أيضا على صورة الحبوب من البر والحمص والفول والعدس، وهنالك آثار سور وجدران دور، ثم رأينا رسم دار فيها بيت من حجارة منحوتة وفي وسطه دكانة حجارة منحوتة كأنها حجر واحد عليها صورة آدمي، إلا أن رأسه طويل وفمه في جانب من وجهه، ويداه خلف ظهره كالمكتوف. وهنالك مياه شديدة النتن، وكتابة على بعض الجدران بالهندي. وأخبرني علاء الملك أن أهل التاريخ يزعمون أن هذا الموضع كانت فيه مدينة عظيمة أكثر أهلها الفساد فمسخوا حجارة، وأن ملكهم هو الذي على الدكانة في الدار التي ذكرناها، وهي الآن تسمى دار الملك، وأن الكتابة التي في بعض الحيطان بالهندي هي تاريخ هلاك أهل تلك المدينة وكان ذلك منذ ألف سنة أو نحوها. وأقمت بهذه المدينة مع علاء الملك خمسة أيام، ثم أحسن في الزاد وانصرفت عنه إلى مدينة بكار بفتح الباء الموحدة ، وهي مدينة حسنة يشقها خليج من نهر السند. وفي وسط ذلك الخليج زاوية حسنة فيها الطعام للوارد والصادر. عمرها كشلوخان أيام ولايته على بلاد السند، وسيقع ذكره. ولقيت بهذه المدينة الفقيه الإمام صدر الدين الحنفي، ولقيت بها قاضيها المسمى بأبي حنيفة، ولقيت بها الشيخ العابد الزاهد شمس الدين محمد الشيرازي، وهو من المعمرين، ذكر لي أن سنه يزيد على مائة وعشرين عاما. ثم سافرت من مدينة بكار فوصلت إلى مدينة أوجه وضبط اسمها بضم الهمزة وفتح الجيم وهي مدينة كبيرة على نهر السند، لها أسواق حسنة وعمارة جيدة. وكان الأمير بها إذ ذاك الملك الفاضل الشريف جلال الدين الكيجي أحد الشجعان الكرماء، وبهذه المدينة توفي بعد سقطة سقطها عن فرسه. مكرمة لهذا الملك ونشأت بيني وبين هذا الملك الشريف جلال الدين مودة، وتأكدت بيننا الصحبة والمحبة، واجتمعنا بحضرة دهلي. فلما سافر السلطان إلى دولة أباد، كما سنذكره، وأمرني بالإقامة بالحضرة، قال لي جلال الدين: إنك تحتاج إلى نفقة كبيرة، والسلطان تطول غيبته، فخذ قريتي واستغلها حتى أعود، ففعلت ذلك. واستغللت منها نحو خمسة آلاف دينار، جزاه الله أحسن الجزاء. ولقيت بمدينة أوجه الشيخ العابد الزاهد الشريف قطب الدين حيدر العلوي، وألبسني الخرقة، وهو من كبار الصالحين. ولم يزل الثوب الذي ألبسنيه معي، إلى أن سلبني كفار الهنود في البحر. ثم سافرت من أوجه إلى مدينة ملتان وضبط اسمها بضم الميم وتاء معلوة ، وهي قاعدة بلاد السند، ومسكن أمير أمرائه. وفي الطريق إليها على مسافة عشرة أميال الوادي المعروف بخسرو أباد، وهو من الأودية الكبار، لا يجاز إلا بالمراكب. وبه يبحث عن أمتعة المجتازين أشد البحث وتفتش رحالهم. وكانت عادتهم حين وصلنا إليها أن يأخذوا الربع من كل ما يجلبه التجار، ويأخذوا على كل فرس سبعة دنانير مغرما. ثم بعد وصولنا إلى الهند بسنتين رفع السلطان تلك المغارم، وأمر أن لا يؤخذ من الناس إلا الزكاة والعشر، لما بايع للخليفة أبي العباس العباسي. ولما أخذنا في إجازة هذا الوادي وفتشت الرحال، عظم علي تفتيش رحلي، لأنه لم يكن فيه طائل، وكان يظهر في أعين الناس كبيرا، فكنت أكره أن يطلع عليه. ومن لطف الله تعالى أن وصل أحد كبار الأجناد من جهة قطب الملك صاحب ملتان، فأمر أن لا يعرض لي ببحث ولا تفتيش، فكان كذلك. فحمدت الله على ما هيأه لي من لطائفه. وبتنا تلك الليلة على شاطئ الوادي، وقدم علينا في صبيحتها ملك البريد واسمه دهقان، وهو سمرقندي الأصل، وهو الذي يكتب للسلطان بأخبار تلك المدينة وعمالتها وما يحدث بها ومن يصل، فتعرفت به ودخلت بصحبته إلى أمير ملتان. ذكر أمير ملتان وترتيب حاله وأمير ملتان هو قطب الملك من كبار الأمراء وفضلائهم. لما دخلت قام إلي وصافحني وأجلسني إلى جانبه. وأهديت له مملوكا وفرسا وشيئا من الزبيب واللوز، وهو من أعظم ما يهدى إليهم، لأنه ليس ببلادهم، وإنما يجلب من خراسان. وكان جلوس هذا الأمير على دكانة كبيرة عليها البسط، وعلى مقربة منه القاضي، ويسمى سالارو، والخطيب ولا أذكر اسمه، وعن يمينه ويساره امراء الأجناد، وأهل السلاح وقوف على رأسه، والعساكر تعرض بين يديه. وهناك قسي كثيرة. فإذا أتى من يريد أن يثبت في العسكر راميا أعطي قوسا من تلك القسي ينزع فيها، وهي متفاوتة في الشدة. فعلى قدر نزعه يكون مرتبه. ومن أراد أن يثبت فارسا، فهنالك طبلة منصوبة، فيجري فرسه ويرميها برمحه. وهناك أيضا خاتم معلق في حائط صغير، فيجري فرسه حتى يحاذيه. فإن رفعه برمحه فهو الجيد عندهم، ومن أراد أن يثبت راميا فارسا فهنالك كرة موضوعة في الأرض، فيجري فرسه ويرميها، وعلى قدر ما يظهر من الإنسان في ذلك من الإصابة يكون مرتبه. ولما دخلنا على هذا الأمير وسلمنا عليه، كما ذكرناه، أمر بإنزالنا في دار خارج المدينة، هي لأصحاب الشيخ العابد ركن الدين الذي تقدم ذكره، وعادتهم أن لا يضيفوا أحدا حتى يأتي أمر السلطان. ذكر من اجتمعت به في هذه المدينة من الغرباء الوافدين على حضرة ملك الهند فمنهم خداوند زاده قوام الدين قاضي ترمذ، قدم بأهله وولده، ثم ورد عليه بها إخوته عماد الدين وضياء الدين وبرهان الدين، ومنهم مبارك شاه أحد كبار سمرقند، ومنهم أرن بغا أحد كبار بخارى، ومنهم ملك زاده ابن أخت خداوند زاده، ومنهم بدر الدين الفصال، وكل واحد من هؤلاء معه أصحابه وخدامه وأتباعه، ولما مضى من وصولنا إلى ملتان شهران، وصل أحد حجاب السلطان، وهو شمس الدين البوشنجي، والملك محمد الهروي الكتوال، بعثهما السلطان لاستقبال خداوند زاده. وقدم معهم ثلاثة من الفتيان بعثتهم المخدومة جهان أم السلطان لاستقبال زوجة خداونده زاده المذكور. وأتوا بالخلع لهما ولأولادهما، ولتجهيز من قدم من الوفود، وأتوا جميعا إلي، وسألوني لماذا قدمت، فأخبرتهم أني قدمت للإقامة في خدمة خوند عالم، وهو السلطان، وبهذا يدعى في بلاده. وكان أمر أن لا يترك أحد ممن يأتي من خراسان يدخل بلاد الهند، إلا إن كان برسم الإقامة. فلما أعلمتهم أني قدمت للإقامة، استدعوا القاضي والعدول، وكتبوا عقدا علي وعلى من أراد الإقامة من أصحابي. وأبى بعضهم من ذلك وتجهزنا للسفر إلى الحضرة. صفحة : 202 وبين ملتان وبينها مسيرة أربعين يوما في عمارة متصلة. وأخرج الحاجب وصاحبه الذي بعث معه ما يحتاج إليه في ضيافة قوام الدين، واستصحبوا من ملتان نحو عشرين طباخا. وكان الحاجب يتقدم ليلا إلى كل منزل، فيجهز الطعام وسواه، فما يصل خداوند زاده حتى يكون الطعام متيسرا. وينزل كل واحد ممن ذكرناهم من الوفود على حدة، بمضاربه، وأصحابه. وربما حضروا الطعام الذي يصنع لخداوند زاده. ولم أحضره أنا إلا مرة واحدة. وترتيب ذلك الطعام أنهم يجعلون الخبز، وخبزهم الرقاق وهو شبه الجراديق، ويقطعون اللحم المشوي قطعا كبيرة، بحيث تكون الشاة أربع قطع أو ستا، ويجعلون أمام كل رجل قطعة. ويجعلون أقراصا مصنوعة بالسمن تشبه الخبز المشترك ببلادنا، ويجعلون في وسطها الحلواء الصابونية، ويغطون كل قرص منها برغيف حلواء يسمونه الخشتي، ومعناه الآجري، مصنوع من الدقيق والسكر والسمن. ثم يجعلون اللحم المطبوخ بالسمن والبصل والزنجبيل الأخضر في صحاف صينية ثم يجعلون شيئا يسمونه سموسك، وهو لحم مهروس مطبوخ باللوز والجوز والفستق والبصل والأبازير، موضوعة في جوف رقاقة مقلوة بالسمن. يضعون أمام كل إنسان خمس قطع من ذلك أو أربعا، ثم يجعلون المطبوخ بالسمن عليه الدجاج، ثم يجعلون لقيمات القاضي ويسمونه الهاشمي، ثم يجعلون القاهرية. ويقف الحاجب على السماط قبل الأكل، ويخدم إلى الجهة التي فيها السلطان، ويخدم جميع من حضر لخدمته. والخدمة عندهم حط الرأس نحو الركوع، فإذا فعلوا ذلك جلسوا للأكل. ويوتى بأقداح الذهب والفضة والزجاج مملوءة بماء النبات وهو الجلاب محلولا في الماء، ويسمون ذلك الشربة، ويشربونه قبل الطعام. ثم يقول الحاجب: بسم الله: فعند ذلك يشرعون في الأكل. فإذا أكلوا أتوا بأكواز الفقاع فإذا شربوه، أتوا بالتنبول والفوفل: وقد تقدم ذكرهما، فإذا أخذوا التنبول والفوفل قال الحاجب: بسم الله. فيقومون ويخدمون مثل خدمتهم أولا، وينصرفون. ثم سافرنا من مدينة ملتان، وهم يجرون هذا الترتيب على ما سطرناه، إلى أن وصلنا إلى بلاد الهند. وكان أول بلد دخلناه مدينة أبوهر بفتح الهاء ، وهي أول تلك البلاد الهندية، صغيرة حسنة كثيرة العمارة، ذات أنهار وأشجار. وليس هنالك من أشجار بلادنا شيء. ما عدا النبق، لكنه عندهم عظيم الجرم، تكون الحبة منه بمقدار حبة العفص، شديد الحلاوة. ولهم أشجار كثيرة، ليس يوجد منها شيء ببلادنا ولا بسواها. ذكر أشجار بلاد الهند وفواكهها صفحة : 203 فمنها العنبة بفتح العين وسكون النون وفتح الباء الموحدة ، وهي شجرة تشبه أشجار النارنج، إلا أنها أعظم أجراما وأكثر أوراقا وظلها أكثر الظلال، غير أنه ثقيل فمن نام تحته وعك. وثمرها على قدر الإجاص الكبير. فإذا كان أخضر قبل تمام نضجه أخذوا ما سقط منه، وجعلوا عليه الملح ، وصيروه كما يصير الليم والليمون ببلادنا. وكذلك يصيرون أيضا الزنجبيل الأخضر وعناقيد الفلفل. ويأكلون ذلك مع الطعام، يأخذون بأثر كل لقمة يسيرا من هذه المملوحات فإذا نضجت العنبة في أوان الخريف، اصفرت جباتها فأكلوها كالتفاح. فالبعض يقطعها بالسكين، والآخر يمصها مصا. وهي حلوة يمازج حلاوتها يسير حموضة. ولها نواة كبيرة يزرعونها فتنبت منها الأشجار، كما تزرع نوى النارنج وغيرها. والشكي والبركي بفتح الشين المعجم وكسر الكاف، وفتح الباء الموحدة وكسر الكاف . وهي أشجار عادية، أوراقها كأوراق الجوز، وثمرها يخرج من أصل الشجر، فما اتصل منه بالأرض فهو البركي، وحلاوته أشد وطعمه أطيب، وما كان فوق ذلك فهو الشكي وثمره يشبه القرع الكبار، وجلوده تشبه جلود البقر، فإذا اصفر في أوان الخريف قطعوه وشقوه. فيكون في داخل كل حبة المائة والمائتان. فما بين ذلك من حبات تشبه الخيار، بين كل حبة وحبة صفاق أصفر اللون، ولكل حبة نواة تشبه الفول الكبير، وإذا شويت هذه النواة أو طبخت يكون طعمها كطعم الفول، إذ ليس يوجد هنالك. ويدخرون هذه النوى في التراب الأحمر فتبقى إلى سنة أخرى. وهذا الشكي والبركي هو خير فاكهة ببلاد الهند. والتندو بفتح التاء المثناة وسكون النون وضم الدال وهو ثمر شجر الأبنوس، وحباته قدر حبات المشمش، ولونها، وهو شديد الحلاوة، والجوز بضم الجيم المعقودة وأشجار. عادية ويشبه ثمرة الزيتون، وهو أسود اللون، ونواه واحدة كالزيتون، والنارنج الحلو، وهو وعندهم كثير. وأما النارنج الحامض فعزيز الوجود. ومنه صنف ثالث يكون بين الحلو والحامض، وثمره على قدر الليم وهو طيب جدا، وكنت يعجبني أكله، ومنها المهوا وبفتح الميم والواو وأشجار عادية وأوراقه كأوراق الجوز، إلا أن فيها حمرة وصفرة، وثمره مثل الأجاص الصغير شديد الحلاوة. وفي أعلى كل حبة منه حبة صغيرة بمقدار حبة العنب مجوفة وطعمها كالعنب. إلا أن الإكثار من أكلها يحدث في الرأس صداعا، ومن العجب أن هذه الحبوب إذا يبست في الشمس كان طعمها كطعم التين، وكنت آكلها عوضا عن التين إذ لا يوجد ببلاد الهند. وهم يسمون هذه الحبة الأنكور بفتح الهمزة وسكون النون وضم الكاف المعقودة والواو والراء ، وتفسيره بلسانهم العنب. والعنب بأرض الهند عزيز جدا، ولا يكون بها إلا في موضع بحضرة دهلي، وببلاد أخرى، ويثمر مرتين في السنة. ونوى هذا الثمر يصنعون منه الزيت، ويستصبحون به. ومن فواكههم فاكهة يسمونها كسيرا بفتح الكاف وكسر السين المهمل وياء مد وراء يحفرون عليها الأرض، وهي شديدة الحلاوة تشبه القسطل. وببلاد الهند من فواكه بلادنا الرمان، ويثمر مرتين في السنة. ورأيته ببلاد جزائر ذيبة المهل لا ينقطع له ثمر، وهم يسمونه أنار بفتح الهمزة والنون ، وأظن ذلك هو الأصل في تسمية الجلنار، فإن جل بالفارسية الزهر، ونار الرمان. ذكر الحبوب التي يزرعها أهل الهند ويقتاتون بها صفحة : 204 وأهل الهند يزرعون مرتين في السنة. فإذا نزل المطر عندهم في أوان القيظ زرعوا الزرع الخريفي، وحصدوه بعد ستين يوما من زراعته. ومن هذه الحبوب الخريفية عندهم الكذرو بضم الكاف وسكون الذال المعجم وضم الراء وبعدها واو ، وهو نوع من الدخن. وهذا الكذور هو أكثر الحبوب عندهم. ومنها القال بالقاف وهو أشبه أنلي، ومنها الشاماخ بالشين والخاء المعجمتين وهو أصغر حبا من القال. وربما نبت هذا الشاماخ من غير زراعة، وهو طعام الصالحين وأهل الورع والفقراء والمساكين. يخرجون لجمع ما نبت منه من غير زراعة، فيمسك أحدهم قفة كبيرة بيساره، وتكون بيمناه مقرعة يضرب بها الزرع فيسقط في القفة، فيجمعون منه ما يقتاتون به جميع السنة. وحب هذا الشاماخ صغير جدا، وإذا جمع جعل في الشمس، ثم يدق في مهارس الخشب. فيطير قشره. ويبقى لبه أبيض، ويصنعون منه عصيدة يطبخونها بحليب الجواميس، وهي أطيب من خبزه. وكنت آكلها كثيرا ببلاد الهند وتعجبني. ومنها الماش، وهو نوع من الجلبان، ومنها المنج بميم مضموم ونون وجيم ، وهو نوع من الماش، إلا أن حبوبه مستطيلة ولونه صافي الخضرة، ويطبخون المنج مع الأرز ويأكلونه بالسمن ويسمونه كشرى بالكاف والشين المعجم والراء ، وعليه يفطرون في كل يوم. وهو عندهم كالحريرة ببلاد المغرب. ومنها اللوبيا وهي نوع من الفول، ومنها الموث بضم الميم وهو مثل الكذرو، إلا أن حبوبه أصغر، وهو من علف الدواب عندهم، وتسمن الدواب بأكله، والشعير عندهم لا قوة له، وإنما علف الدواب من هذا الموت، أو الحمص ويجرشونه ويبلونه بالماء ويطعمونه الدواب، ويطعمونها عوضا من القصيل أوراق الماش، بعد أن تسقى الدابة السمن عشرة أيام، في كل يوم مقدار ثلاثة أرطال أو أربعة، ولا تركب في تلك الأيام. وبعد ذلك يطعمونها أوراق الماش كما ذكرنا شهرا أو نحوه وهذه الحبوب التي ذكرناها هي الخريفية وإذا حصدوها بعد ستين يوما من زراعتها ازدرعوا الحبوب الربيعية، وهي القمح والشعير والحمص والعدس. وتكون زراعتها في الأرض التي كانت الحبوب الخريفية مزدرعة فيها. وبلادهم كريمة طيبة التربة. وأما الأرز فانهم يزرعونه ثلاث مرات في السنة، وهو من أكبر الحبوب عندهم. ويزدرعون السمسم وقصب السكر مع الحبوب الخريفية التي تقدم ذكرها. ولنعد إلى ما كنا بسبيله فأقول سافرنا من مدينة أبوهر، في صحراء مسيرة يوم، في أطرافها جبال منيعة يسكنها كفار الهنود، وربما قطعوا الطريق. وأهل بلاد الهند أكثرهم كفار. فمنهم رعية تحت ذمة المسلمين، يسكنون القرى، ويكون عليهم حاكم من المسلمين يقدمه العامل أو الخديم الذي تكون القرية في إقطاعه، ومنهم عصاة محاربون يمتنعون بالجبال ويقطعون الطريق. ذكر غزوة لنا بهذا الطريق وهي أول غزوة شهدتها ببلاد الهند صفحة : 205 ولما أردنا السفر من مدينة أبوهر، خرج الناس منها أول النهار، وأقمت بها إلى نصف النهار في لمة من أصحابي، ثم خرجنا، ونحن اثنان وعشرون فارسا. منهم عرب ومنهم أعاجم، فخرج علينا في تلك الصحراء ثمانون رجلا من الكفار وفارسان. وكان أصحابي ذوي نجدة وعتي، فقاتلناهم أشد القتال، فقتلنا أحد الفارسين منهم وغنمنا فرسه، من رجالهم نحو اثني عشر رجلا وأصابتني نشابة، وأصابت فرسي نشابة ثانية ومن الله بالسلامة منها، لأن نشابهم لا قوة لها، وجرح لأحد أصحابنا فرس عوضناه له بفرس الكافر، وذبحنا فرسه المجروح، فأكله الترك من أصحابنا. وأوصلنا تلك الرؤوس إلى حصن أبي بكهر فعلقناها على سوره. وكان وصولنا في نصف الليل إلى حصن أبي بكهر المذكور وضبط اسمه بفتح الباء الموحدة وسكون الكاف وفتح الهاء وآخره راء . وسافرنا منه فوصلنا بعد يومين إلى مدينة أجودهن وضبط اسمها بفتح الهمزة وضم الجيم وفتح الدال المهمل والهاء وآخره نون ، مدينة صغيرة هي للشيخ الصالح فريد الدين البذاوني الذي أخبرني الشيخ الصالح الولي برهان الدين الأعرج بالإسكندرية أني سألقاه، فلقيته والحمد لله، وهو شيخ ملك الهند، وأنعم عليه بهذه المدينة. وهذا الشيخ مبتلى بالوسواس والعياذ بالله، فلا يصافح أحدا ولا يدنو منه، وإذا ألصق ثوبه بثوب أحد غسل ثوبه. دخلت زاويته ولقيته وأبلغته سلام الشيخ برهان الدين، فعجب وقال: أنا دون ذلك. ولقيت ولديه الفاضلين معز الدين، وهو أكبرهما ولما مات أبوه تولى الشياخة بعده، وعلم علم الدين. وزرت قبر جده القطب الصالح فريد الدين البذاوني، منسوبة إلى مدينة بذاون بلد السنبل. وهي بفتح الباء الموحدة والذال المعجم وضم الواو وآخرها نون ولما أردت الانصراف عن هذه المدينة، قال لي علم الدين: لا بد لك من رؤية والدي فرأيته وهو في أعلى سطح له، وعليه ثياب بيض وعمامة كبيرة لها ذؤابة وهي مائلة إلى جانب. ودعا لي وبعث إلي بسكر ونبات. ذكر أهل الهند الذين يحرقون أنفسهم بالنار صفحة : 206 ولما انصرفت عن هذا الشيخ، رأيت الناس يهرعون من عسكرنا، ومعهم بعض أصحابنا. فسألته ما الخبر ? فأخبروني أن كافرا من الهنود مات، وأججت النار لحرقه، وامرأته تحرق نفسها معه. ولما احترقا جاء أصحابي وأخبروا أنها عانقت الميت حتى احترقت معه. وبعد ذلك كنت في تلك البلاد أرى المرأة من كفار الهنود متزينة راكبة، والناس يتبعونها من مسلم وكافر، والأطبال والأبواق بين يديها، ومعها البراهمة، وهم كبراء الهنود. وإذا كان ذلك ببلاد السلطان استأذنوا السلطان في إحراقها فيؤذن لهم فيحرقونها. ثم اتفق بعد مدة أني كنت بمدينة أكثر سكانها الكفار تعرف بأبجري ، وأميرها مسلم من سامرة السند، وعلى مقربة منها الكفار العصاة، فقطعوا الطريق يوما، وخرج الأمير المسلم لقتالهم، وخرجت معه رعية من المسلمين والكفار، ووقع بينهم قتال شديد، مات فيه من رعية الكفار سبعة نفر - وكان لثلاثة منهم ثلاث زوجات، فاتفقن على إحراق أنفسهن. وإحراق المرأة بعد زوجها عندهم أمر مندوب إليه غير واجب لكن من أحقرت نفسها بعد زوجها أحرز أهل بيتها شرفا بذلك، ونسبوا إلى الوفاء، ومن لم تحرق نفسها، لبست خشن الثياب، وأقامت عند أهلها بائسة ممتهنة لعدم وفائها. ولكنها لا تكره على إحراق نفسها. ولما تعاهدت النسوة الثلاث اللائي ذكرناهن على إحراق أنفسهن، أقمن قبل ذلك ثلاثة أيام في غناء وطرب وأكل وشرب، كأنهن يودعن الدنيا. ويأتي إليهن النساء من كل جهة. وفي صبيحة اليوم الرابع أتيت كل واحدة منهن بفرس فركبته، وهي متزينة متعطرة، وفي يمناها جوزة نارجيل تلعب بها، وفي يسراها مرآة تنظر فيها وجهها، والبراهمة يحفون بها، وأقاربها معها، وبين يديها الأطبال والأبواق والأنفار. وكل إنسان من الكفار يقول لها: أبلغي السلام إلى أبي أو أخي أو أمي أو صاحبي، وهي تقول: نعم، وتضحك إليهم. وركبت مع أصحابي لأرى كيفية صنعهن في الاحتراق. فسرنا معهن نحو ثلاثة أميال، وانتهينا إلى موضع مظلم كثير المياه والأشجار متكاثف الظلال، وبين أشجاره أربع قباب، في كل قبة صنم من الحجارة. وبين القباب صهريج ماء قد تكاثفت عليه الظلال، وتزاحمت الأشجار فلا تتخللها الشمس. فكان ذلك الموضع بقعة من بقع جهنم، أعاذنا الله منها. ولما وصلن إلى تلك القباب، نزلن إلى الصهريج، وانغمسن فيه، وجردن ما عليهن من ثياب وحلي، فتصدقن به. وأتيت كل واحدة منهن بثوب قطن خشن غير مخيط، فربط بعضه على وسطها، وبعضه على رأسها وكتفيها. والنيران قد أضرمت على قرب من ذلك الصهريج، في موضع منخفض، وصب عليها روغن كنجت كنجد ، وهو زيت الجلجلاان فزاد في اشتعالها. وهنالك نحو خمسة عشر رجلا بأيديهم حزم من الحطب الرقيق، ومعهم نحو عشرة بأيديهم خشب كبار، وأهل الأطبال والأبواق وقوف ينتظرون مجيء المرأة، وقد حجبت النار بملحفة، يمسكها الرجال بأيديهم لئلا يدهشها النظر إليها. فرأيت إحداهن لما وصلت إلى تلك الملحفة، نزعتها من أيدي الرجال بعنف وقالت لهم: مارا ميترساني ازاطش آنش من ميدانم أواطاش است رهكاني مارا؛ وهي تضحك، ومعنى هذا الكلام أبالنار تخوفونني ? أنا أعلم أنها نار محرقة. ثم جمعت يديها على رأسها خدمة للنار، ورمت بنفسها فيها. وعند ذلك ضربت الأطبال والأنفار والأبواق، ورمى الرجال ما بأيديهم من الحطب عليها، وجعل الآخرون تلك الخشب من فوقها لئلا تتحرك، وارتفعت الأصوات وكثر الضجيج. ولما رأيت ذلك كدت أسقط عن فرسي لولا أصحابي تداركوني بالماء. فغسلوا وجهي وانصرفت. وكذلك يفعل أهل الهند أيضا في الغرق. يغرق كثير منهم أنفسهم في نهر الكنك، وهو الذي إليه يحجون. وفيه يرمى برماد هؤلاء المحرقين. وهم يقولون: إنه من الجنة. وإذا أتى أحدهم ليغرق نفسه يقول لمن حضره لا تظنوا أني أغرق نفسي لأجل شيء من أمور الدنيا أو لقلة مال، إنما قصدي التقرب إلى كساي، وكساي بضم الكاف والسين المهمل اسم الله عز وجل بلسانهم، ثم يغرق نفسه. فإذا مات أخرجوه وأحرقوه ورموا برماده في البحر المذكور. صفحة : 207 ولنعد إلى كلامنا الأول، فنقول: سافرنا من مدينة أجودهن فوصلنا بعد مسيرة أربعة أيام منها إلى مدينة سرستي وضبط اسمها بسينين مفتوحين بينهما راء ساكنة ثم تاء مثناة مكسورة وياء مدينة كبيرة كثيرة الأرز، وأرزها طيب ومنها يحمل إلى حضرة دهلي، ولها مجبى كثير جدا. أخبرني الحاجب شمس الدين البوشنجي بمقداره ونسيته. ثم سافرنا منها إلى مدينة حانسي وضبط اسمها بفتح الحاء المهملة وألف ونون ساكن وسين مهمل مكسور وياء وهي من أحسن المدن وأتقنها وأكثرها عمارة، ولها سور عظيم ذكروا أن بانيه رجل من كبار سلاطين الكفار يسمى تورة بضم التاء المعلوة وفتح الراء . وله عندهم حكايات وأخبار. من هذه المدينة كمال الدين صدر الجهان قاضي قضاة الهند، وأخوه قطلوخان معلم السلطان، وأخواهما نظام الدين وشمس الدين الذي انقطع إلى الله وجاور بمكة حتى مات. ثم سافرنا من حانسي فوصلنا بعد يومين إلى مسعود أباد. وهي على عشرة أميال من حضرة دهلي، وأقمنا بها ثلاثة أيام، وحانسي ومسعود أباد هما للملك المعظم هوشنج بضم الهاء وفتح الشين المعجم وسكون النون وبعدها جيم ابن الملك كمال كرك، وكرك بكافين معقودين أولاهما مضمومة ومعناه الذئب، وسيأتي ذكره. وكان سلطان الهند الذي قصدنا حضرته غائبا عنها بناحية مدينة قتوج، وبينها وبين حضرة دهلي عشرة أيام، وكانت بالحضرة والدته وتدعى المخدومة جهان، وجهان اسم الدنيا. وكان بها أيضا وزيره خواجه جهان المسمى بأحمد بن إياس، الرومي الأصل. فبعث الوزير إلينا أصحابه ليتلقونا، وعين للقاء كل واحد منا من كان من صنفه. فكان من الذين عينهم للقائي الشيخ البسطامي، والشريف المازندراني وهو حاجب الغرباء، والفقيه علاء الدين الملتاني المعروف بقنرة بضم القاف وفتح النون وتشديدها وكتب إلى السلطان بخبرنا، وبعث الكتاب مع الدواة، وهي بريد الرجالة، حسبما ذكرناه، فوصل إلى السلطان، وأتاه الجواب في تلك الأيام الثلاثة التي أقمناها بمسعود أباد، وبعد تلك الأيام خرج إلى لقائنا القضاة والفقهاء والمشايخ وبعض الأمراء، وهم يسمون الأمراء ملوكا. فحيث يقول أهل ديار مصر وغيرها الأمير يقولن هم الملك. وخرج إلى لقائنا الشيخ ظهير الدين الزنجاني، وهو كبير المنزلة عند السلطان. ثم رحلنا من مسعود أباد فنزلنا بمقربة من قرية تسمى بالم بفتح الباء المعقودة وفتح اللام وهي للسيد الشريف ناصر الدين مطهر الأوهري، أحد ندماء السلطان، وممن له عنده الحظوة التامة. وفي غد ذلك اليوم وصلنا إلى حاضرة دهلي قاعدة بلاد الهند وضبط اسمها بكسر الدال المهمل وسكون الهاء وكسر اللام ، وهي المدينة العظيمة الشأن الضخمة الجامعة بين الحسن والحصانة، وعليها السور الذي لا يعلم له في بلاد الدنيا نظير، وهي أعظم مدن الهند بل مدن الإسلام كلها بالمشرق. ذكر وصفها ومدينة دهلي كبيرة الساحة كثيرة العمارة، وهي الآن أربع مدن متجاورات متصلات، إحداها المسماة بهذا الاسم دهلي، وهي القديمة من بناء الكفار. وكان افتتاحها سنة أربع وثمانين وخمسمائة، والثانية تسمى سيري بكسر السين المهمل والراء بينهما ياء مد ، وتسمى أيضا دار الخلافة، وهي التي أعطاها السلطان لغياث الدين حفيد الخليفة المستنصر العباسي لم قدم عليه، وبها كان سكنى السلطان علاء الدين وابنه قطب الدين، وسنذكرهما، والثالثة تسمى تغلق أباد باسم بانيها السلطان تغلق والد سلطان الهند الذي قدمنا عليه. وكان سبب بنائه لها أنه وقف يوما بين يدي السلطان قطب الدين، فقال له: يا خوند عالم، كان ينبغي أن تبني هنا مدينة. فقال له السلطان متهكما: إذا كنت سلطانا فابنها. فكان من قدر الله أن كان سلطانا فبناها، وسماها باسمه. والرابعة تسمى جهان بناه، وهي مختصة بسكنى السلطان محمد شاه ملك الهند الآن الذي قدمنا عليه. وهو الذي بناها. وكان أراد أن يضم هذه المدن الأربع تحت سور واحد فبنى منه بعضا وترك بناء باقيه، لعظم ما يلزم في بنائه. ذكر سور دهلي وأبوابها صفحة : 208 والسور المحيط بمدينة دهلي لا يوجد له نظير. عرض حائطه أحد عشر ذراعا. وفيه بيوت يسكنها السمار وحفاظ الأبواب. وفيها مخازن للطعام ويسمونها الأنبارات، ومخازن للعدد، ومخازن للمجانيق، والرعادات ويبقى الزرع بها مدة طائلة لا يتغير، ولا تطرقه آفة. ولقد شاهدت الأرز يخرج من بعض تلك المخازن ولونه قد اسود، ولكن طعمه طيب. ورأيت أيضا الكذرو يخرج منها. وكل ذلك من اختزان السلطان بلبن منذ تسعين سنة. ويمشي في داخل السور الفرسان والرجال من أول المدينة إلى آخرها. وفيه طيقان مفتحة إلى جهة المدينة يدخل منها الضوء وأسفل هذا السور مبني بالحجارة، وأعلاه بالآجر، وأبراجه كثيرة متقاربة. ولهذه المدينة ثمانية وعشرون بابا، وهم يسمون الباب دروازة. فمنها دروازة بذاون، وهي الكبرى، ودروازة المندوي، وبها رحبة الزرع، ودروازة جل بضم الجيم وهي موضع البساتين، ودروازة شاه: اسم رجل، ودروازة بالم: اسم قرية قد ذكرناها، ودروازة نجيب: اسم رجل، ودروازة كمال كذلك، ودروازة غزنة، نسبة إلى مدينة غزنة التي في طرف خراسان، وبخارجها مصلى العيد وبعض المقابر، ودروازة البجالصة بفتح الباء والجيم والصاد المهمل ، وبخارج هذه الدروازة مقابر دهلي، وهي مقبرة حسنة يبنون بها القباب. ولا بد عند كل قبر من محراب، وإن كان لا قبة له، ويزرعون بها الأشجار المزهرة مثل قل كل شنبو وريبول راي بيل والنسرين وسواها. والأزاهير هنالك لا تنقطع في فصل من الفصول. ذكر جامع دهلي وجامع دهلي كبير الساحة، حيطانه وسقفه وفرشه كل ذلك من الحجارة البيض المنحوتة، أبدع نحت، ملصقة بالرصاص أتقن إلصاقه، لا خشبة به أصلا. وفيه ثلاث عشرة قبة من حجارة، ومنبره أيضا من الحجر، وله أربعة من الصحون. وفي وسط الجامع العمود الهائل الذي لا يدرى من أي المعادن هو. ذكر لي بعض حكمائهم أنه سمي هفت جوش بفتح الهاء وسكون الفاء وتاء معلوة وجيم مضموم وآخره شين معجم ، ومعنى ذلك سبعة معادن، وأنه مؤلف منها. وقد جلي من هذا العمود مقدار السبابة، ولذلك المجلو منه بريق عظيم، ولا يؤثر فيه الحديد. وطوله ثلاثون ذراعا، وأدرنا به عمامة فكان الذي أحاط بدائرته منها ثماني أذرع. وعند الباب الشرقي من أبواب المسجد صنمان كبيران جدا من النحاس مطروحان بالأرض، وقد ألصقا بالحجارة، ويطأ عليها كل داخل إلى المسجد أو خارج منه. وكان موضع هذا المسجد بدخانة، وهو بيت الأصنام، فلما افتتحت جعل مسجدا، وفي الصحن الشمالي من المسجد الصومعة التي لا نظير لها في بلاد الإسلام. وهي مبنية بالحجارة الحمر، خلافا لحجارة سائر المسجد، فإنها بيض. وحجارة الصومعة منقوشة، وهي سامية الارتفاع، وفحلها من الرخام الأبيض الناصع، وتفافيحها من الذهب الخالص، وسعة ممرها بحيث تصعد فيه الفيلة. حدثني من أثق به أنه رأى الفيل حين بنيت يصعد بالحجارة إلى أعلاها. وهي من بناء السلطان معز الدين ناصر الدين ابن السلطان غياث الدين بلبن. وأراد السلطان قطب الدين أن يبنى بالصحن الغربي صومعة أعظم منها، فبنى مقدار الثلث منها، واخترم دون تمامها. وأراد السلطان محمد إتمامها، ثم ترك ذلك تشاؤما. وهذه الصومعة من عجائب الدينا في ضخامتها وسعة ممرها، بحيث تصعده ثلاثة من الفيلة متقارنة. وهذا الثلث المبني مساو لارتفاع جميع الصومعة التي ذكرنا أنها بالصحن الشمالي. وصعدتها مرة فرأيت معظم دور المدينة، وعاينت الأسوار على ارتفاعها وسموها منحطة، وظهر لي الناس في أسفلها كأنهم الصبيان الصغار. ويظهر لناظرها من أسفلها أن ارتفاعها ليس بذلك، لعظم جرمها وسعتها. وكان السلطان قطب الدين أراد أن يبني أيضا مسجدا جامعا بسيري المسماة دار الخلافة، فلم يتم منه غير الحائط القبلي والمحراب، وبناؤه بالحجارة البيض والسود والحمر والخضر. ولو كمل لم يكن له مثل في البلاد. وأراد السلطان محمد إتمامه، وبعث عرفاء البناء ليقدروا النفقة فيه، فزعموا أنه ينفق في إتمامه خمسة وثلاثون لكا فترك ذلك استكثارا له. وأخبرني بعض خواصه أنه لم يترك استكثارا، لكنه تشاءم به لما كان السلطان قطب الدين قد قتل قبل تمامه. ذكر الحوضين العظيمين بخارجها صفحة : 209 وبخارج دهلي الحوض العظيم المنسوب إلى السلطان شمس الدين للمش، ومنه يشرب أهل المدينة، وهو بالقرب من مصلاها. وماؤها يجتمع من ماء المطر. وطوله نحو ميلين وعرضه على النصف من طوله. والجهة الغربية من ناحية المصلى مبنية بالحجارة مصنوعة أمثال الدكاكين، بعضها أعلى من بعض، وتحت كل دكان درج ينزل عليها إلى الماء، وبجانب كل دكان قبة حجارة فيها مجالس للمتنزهين والمتفرجين. وفي وسط الحوض قبة عظيمة من الحجارة المنقوشة مجعولة طبقتين. فإذا كثر الماء في الحوض، ولم يكن سبيل إليها إلا في القوارب، فإذا قل الماء دخل إليها الناس، وداخلها مسجد. وفي أكثر الأوقات يقيم بها الفقراء المنقطعون إلى الله المتوكلون عليه، وإذا جف الماء في جوانب هذا الحوض زرع فيها قصب السكر والخيار والقثاء والبطيخ الأخضر والأصفر وهو شديد الحلاوة صغير الجرم. وفيما بين دهلي ودار الخلافة حوض الخاص وهو أكبر من حوض السلطان شمس الدين. وعلى جوانبه نحو أربعين قبة، ويسكن حوله أهل الطرب، وموضعهم يسمى طرب أباد. ولهم سوق هنالك من أعظم الأسواق، ومسجد جامع ومساجد سواه كثيرة. وأخبرت أن النساء المغنيات لساكنات هنالك يصلين التراويح في شهر رمضان بتلك المساجد مجتمعات، ويؤم بهن الائمة، وعددهن كبير، وكذلك الرجال المغنون. ولقد شاهدت الرجال أهل الطرب في عرس الأمير سيف الدين غدا بن مهنا. لكل واحد منهم مصلى تحت ركبته، فاذا سمع الأذان قام فتوضأ وصلى. ذكر بعض مزاراتها فمنها قبر الشيخ الصالح قطب الدين بختيار الكعكي، وهو ظاهر البركة كثير التعظيم. وسبب تسمية هذا الشيخ بالكعكي أنه كان إذا أتاه الذين عليهم الديون شاكين من الفقر أو القلة، أو الذين لهم البنات ولم يجدوا ما يجهزوهن به إلى أزواجهن، يعطي من أتاه منهم كعكعة من الذهب أو من الفضة، حتى عرف من أجل ذلك بالكعكي رحمه الله، ومنها قبر الفقيه الفاضل نور الدين الكرلاني بضم الكاف وسكون الراء والنون ومنها قبر الفقيه علاء الدين الكرماني نسبة إلى كرمان، وهو ظاهر البركة ساطع النور ومكانه يظهر قبلة المصلى. وبذلك الموضع قبور رجال صالحين كثيرة نفع الله تعالى بهم. ذكر بعض علمائها وصلحائها فمنهم الشيخ الصالح العالم محمود الكبا بالباء الموحدة ، وهو من كبار الصالحين. والناس يزعمون أنه ينفق من الكون، لأنه لا مال له ظاهر، وهو يطعم الوارد والصادر، ويعطي الذهب والدراهم والأثواب، وظهرت له كرامات كثيرة، واشتهر بها. رأيته مرات كثيرة، وحصلت لي بركته، ومنهم الشيخ الصالح العالم علاء الدين النيلي كأنه منسوب إلى نيل مصر، والله أعلم، كان من أصحاب الشيخ الصالح نظام الدين البزواني. وهو يعظ الناس في كل يوم جمعة، فيتوب كثير منهم بين يديه، ويحلقون رؤوسهم، ويتواجدون ويغشى على بعضهم. حكاية شاهدته في بعض الأيام وهو يعظ. فقرأ القارئ بين يديه: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزله الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد . ثم كررها الفقيه علاء الدين. فصاح أحد الفقراء من ناحية المسجد صيحة عظيمة، فأعاد الشيخ الآية، فصاح الفقير ثانية ووقع ميتا. وكنت فيمن صلى عليه، وحضر جنازته. ومنهم الشيخ الصالح العابد صدر الدين الكهراني بضم الكاف وسكون الهاء وراء ونون وكان يصوم الدهر ويقوم الليل وتجرد عن الدنيا جميعا ونبذها، ولباسه عباءة. ويزوره السلطان وأهل الدولة، وربما احتجب عنهم. فرغب السلطان منه أن يقطعه قرى يطعم منها الفقراء والواردين فأبى ذلك. وزاره يوما وأتى إليه بعشرة آلاف دينار فلم يقبلها وذكروا أنه لا يفطر إلا بعد ثلاث، وأنه قيل له في ذلك فقال: لا أفطر حتى اضطر، فتحل لي الميتة، ومنهم الإمام الصالح العالم العابد الورع الخاشع فريد دهره ووحيد عصره كمال الدين عبد الله الغاري بالغين المعجم والراء نسبة إلى غار كان يسكنه خارج دهلي بمقربة من زاوية الشيخ نظام الدين البذاوني زرته بهذا الغار ثلاث مرات. صفحة : 210 كرامة له: كان لي غلام فأبق مني، وألفيته بيد رجل من الترك، فذهبت إلى انتزاعه من يده، فقال لي الشيخ: إن هذا الغلام لا يصلح لك فلا تأخذه. وكان التركي راغبا في المصالحة، فصالحته بمائة دينار أخذتها منه، وتركته له. فلما كان بعد ستة أشهر قتل سيده، وأتى به إلى السلطان، فأمر بتسليمه لأولاد سيده فقتلوه. ولما شاهدت لهذا الشيخ هذه الكرامة انقطعت إليه ولازمته وتركت الدنيا ووهبت جميع ما كان عندي للفقراء والمساكين وأقمت عنده مدة، فكنت أراه يواصل عشرة أيام وعشرين يوما، ويقوم أكثر الليل. ولم أزل معه حتى بعث عني السلطان، ونشبت في الدنيا ثانية. والله تعالى يختم بالخير وسأذكر ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى، وكيفية رجوعي إلى الدنيا. ذكر فتح دهلي ومن تداولها من الملوك حدثني الفقيه العالم العلامة قاضي القضاة بالهند والسند كمال الدين محمد بن البرهان الغزنوي الملقب بصدر الجهان، أنم مدينة دهلي افتتحت من أيدي الكفار في سنة أربع وثمانين وخمسمائة. وقد قرأت أنا ذلك مكتوبا على محراب الجامع الأعظم بها. وأخبرني أيضا أنها افتتحت على يد الأمير قطب الدين أيبك واسمه بفتح الهمزة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة ، وكان يلقب سياه سالار ، ومعناه مقدم الجيوش. وهو أحد مماليك السلطان المعظم شهاب الدين محمد بن سنام الغوري ملك غزنة وخراسان، المتغلب على ملك إبراهيم بن السلطان الغازي محمود بن سبكتكين الذي ابتدأ فتح الهند. وكان السلطان شهاب الدين المذكور بعث الأمير قطب الدين بعسكر عظيم ففتح الله عليه مدينة لاهور. وسكنها وعظم شأنه، وسعى به إلى السلطان، وألقى إليه جلساؤه أنه يريد الانفراد بملك الهند، وأنه قد عصى وخالف. وبلغ هذا الخبر إلى قطب الدين فبادر بنفسه، وقدم على غزنة ليلا، ودخل على السلطان، ولا علم عند الذين وشوا به إليه. فلما كان بالغد قعد السلطان على سريره، وأقعد أيبك تحت السرير، بحيث لا يظهر، وجاء الندماء والخواص الذين سعوا به. فلما استقر بهم الجلوس سألهم السلطان عن شأن أيبك، فذكروا له أن عصى وخالف، وقالوا: قد صح عندنا أنه ادعى الملك لنفسه. فضرب السلطان سريره برجله، وصفق بيديه وقال: يا أيبك، قال: لبيك، وخرج عليهم، فسقط في أيديهم، وفزعوا إلى تقبيل الأرض. فقال لهم السلطان: قد غفرت لكم هذه الزلة. وإياكم والعودة إلى الكلام في أيبك. وأمره أن يعود إلى بلاد الهند، فعاد إليها، وفتح مدينة دهلي وسواها. واستقر بها الإسلام إلى هذا العهد. وأقام قطب الدين بها إلى أن توفي. ذكر السلطان شمس الدين للمش وضبط اسمه بفتح اللام الأولى وسكون الثانية وكسر الميم وشين معجم ، وهو أول من ولي الملك بمدينة دهلي مستقلا به وكان قبل تملكه مملوكا للأمير قطب الدين أيبك وصاحب عسكره نائبا عنه، فلما مات قطب الدين استبد بالملك، وأخذ الناس بالبيعة. فأتاه الفقهاء يقدمهم قاضي القضاة إذ ذاك وجيه الدين الكاساني، فدخلوا عليه وقعد بين يديه، وقعد القاضي إلى جانبه على العادة وفهم السلطان عنهم ما أرادوا أن يكلموه به، فرفع طرف البساط الذي هو قاعد عليه، وأخرج لهم عقدا يتضمن عتقه. فقرأه القاضي والفقهاء، وبايعوه جميعا. واستقل بالملك، وكانت مدته عشرين سنة. وكان عادلا صالحا فاضلا، ومن مآثره أنه اشتد في رد المظالم وإنصاف المظلومين وأامر أن يلبس كل مظلوم ثوبا مصبوغا وأهل الهند جميعا يلبسون البياض فكان متى قعد للناس أو ركب فرأى أحدا عليه ثوب مصبوغ نظر في قضيته وأنصفه ممن ظلمه ثم أنه أعيا في ذلك فقال: إن بعض الناس تجري عليهم المظالم بالليل، وأريد تعجيل إنصافهم، فجعل على باب قصره أسدين مصورين من الرخام موضوعين على برجين هنالك، وفي أعناقهما سلسلتان من الحديد فيهما جرس كبير، فكان المظلوم يأتي ليلا فيحرك الجرس، فيسمعه السلطان وينظر في أمره للحين وينصفه. ولما توفي السلطان شمس الدين خلف من الأولاد الذكور ثلاثة وهم ركن الدين الوالي بعده، ومعز الدين، وناصر الدين، وبنتا تسمى رضية وهي شقيقة معز الدين منهم فتولى بعده ركن الدين كما ذكرناه. ذكر السلطان ركن الدين ابن السلطان شمس الدين صفحة : 211 ولما بويع ركن الدين بعد موت أبيه افتتح أمره بالتعدي على أخيه معز الدين فقتله وكانت رضية شقيقته، فأنكرت ذلك عليه، فأراد قتلها. فلما كان في بعض أيام الجمع خرج ركن الدين إلى الصلاة. فصعدت رضية على سطح القصر القديم المجاور للجامع الأعظم، وهو يسمى دولة خانة، ولبست عليها ثياب المظلومين، وتعرضت للناس، وكلمتهم من أعلى السطح، وقالت لهم: إن أخي قتل أخاه، وهو يريد قتلي معه. وذكرتهم أيام أبيها وفعله الخير وإحسانه إليهم فثاروا عند ذلك إلى السلطان ركن الدين وهو في مسجد فقبضوا عليه وأتوا به إليها فقالت لهم: القاتل يقتل فقتلوه قصاصا بأخيه وكان آخرهما ناصر الدين صغيرا فاتفق الناس على تولية رضية. ذكر السلطانة رضية ولما قتل ركن الدين اجتمعت العساكر على تولية أخته رضية الملك، فولوها. واستقلت بالملك أربع سنين وكانت تركب بالقوس والتركش والقربان، كما يركب الرجال ولا تستر وجهها، ثم إنها اتهمت بعبد لها من الحبشة فاتفق الناس على خلعها وتزويجها، فخلعت وزوجت من بعض أقاربها وولي الملك أخوها ناصر الدين. ذكر السلطان ناصر الدين ابن السلطان شمس الدين ولما خلعت رضية ولي ناصر الدين أخوها الأصغر، واستقل بالملك مدة. ثم إن رضية وزوجها خالفا عليه، وركبا في مماليكهما ومن تبعهما من أهل الفساد وتهيأ لقتاله، وخرج ناصر الدين معه مملوكه النائب عنه غياث الدين بلبن متولي الملك بعده فوقع اللقاء وانهزم عسكر رضية، وفرت بنفسها، فأدركها الجوع وأجهدها الإعياء، فقصدت حراثا رأته يحرث الأرض، فطلبت منه ما تأكله، فأعطاها كسرة خبز فأكلتها، وغلب عليها النوم، وكانت في زي الرجال، فلما نامت نظر إليها الحراث وهي نائمة، فرأى تحت ثيابها قباء مرصعا فعلم أنها امرأة فقتلها وسلبها وطرد فرسها ودفنها في فدانه، وأخذ بعض ثيابها فذهب إلى السوق يبيعها، فأنكر أهل السوق شأنه وأتوا به الشحنة، وهو الحاكم، فضربه فأقر بقتلها ودلهم على مدفنها فاستخرجوها وغسلوها وكفنوها ودفنت هنالك وبني عليها قبة وقبرها الآن يزار ويتبرك به ، وهو على شاطئ النهر الكبير المعروف بنهر الجون، على مسافة فرسخ واحد من المدينة. واستقل ناصر الدين بالملك بعدها، واستقام له الأمر عشرين سنة وكان ملكا صالحا ينسخ نسخا من الكتاب العزيز ويبيعها فيقتات بثمنها. وقد وقفني القاضي كمال الدين على مصحف بخطه متقن محكم الكتابة، ثم إن نائبه غياث الدين بلبن قتله، وملك بعده ولبلبن هذا خبر ظريف نذكره. ذكر السلطان غياث الدين بلبن وضبط اسمه بباءين موحدتين بينهما لام والجميع مفتوحات وآخرها نون ، ولما قتل بلبن مولاه السلطان ناصر الدين استقل بالملك بعده عشرين سنة، وقد كان قبلها نائبا له عشرين سنة أخرى وكان من خيار السلاطين، عادلا حليما فاضلا. ومن مكارمه أنه بنى دارا، وسماها دار الأمن فمن دخلها من أهل الديون قضي دينه ومن دخلها خائفا أمن، ومن دخلها وقد قتل أحدا أرضى عنه أولياء المقتول، ومن دخلها من ذوي الجنايات أرضى أيضا من يطلبه. وبتلك الدار دفن لما مات. وقد زرت قبره. حكاية صفحة : 212 يذكر أن أحد الفقراء ببخارى رأى بها بلبن هذا وكان قصيرا حقيرا دميما فقال له: يا تركك، وهي لفظة تعبر عن الاحتقار. فقال له: لبيك يا خوند، فأعجبه كلامه، فقال له: إشتر لي من هذا الرمان، وأشار إلى رمان يباع في بالسوق، فقال: نعم وأخرج فليسات لم يكن عنده سواها واشترى له من ذلك الرمان. فلما أخذها الفقير قال له: وهبناك ملك الهند. فقبل بلبن يد نفسه، وقال: قبلت ورضيت واستقر ذلك في ضميره، واتفق أن بعث السلطان شمس الدين للمش تاجرا يشتري له المماليك بسمرقند وبخارى وترمذ فاشترى مائة مملوك كان من جملتهم بلبن، فلما دخل بالمماليك على السلطان أعجبه جميعهم إلا بلبن، لما ذكرناه من دمامته فقال: لا أقبل هذا فقال له بلبن: يا خوند عالم لمن اشتريت هؤلاء المماليك ? فضحك منه وقال: اشتريتهم لنفسي. فقال: اشترني أنا لله عز وجل. فقال: نعم وقبله وجعله في جملة المماليك فاحتقر شأنه وجعل في السقائين وكان أهل المعرفة بعلم النجوم يقولون للسلطان شمس الدين: إن أحد مماليكه يأخذ الملك من يد ابنك ويستولي عليه ولا يزالون يلقون ذلك، وهو لا يلتفت إلى أقوالهم لصلاحه وعدله، إلى أن ذكر ذلك للخاتون الكبرى أم أولاده فذكرت له ذلك، وأثر في نفسه، وبعث على المنجمين فقال: أتعرفون المملوك الذي يأخذ ملك ابني إذا رأيتموه ? فقالوا له: نعم عندنا علامة نعرفه بها فأمر السلطان بعرض مماليكه، وجلس لذلك فعرضوا بين يديه طبقة طبقة، والمنجمون ينظرون إليهم ويقولون: لم نره بعد، وحان وقت الزوال، فقال السقاءون بعضهم لبعض: إنا قد جعنا، فلنجمع شيئا من الدراهم، ونبعث أحدنا إلى السوق ليشتري لنا ما نأكله فجمعوا الدراهم، وبعثوا بها بلبن، إذ لم يكن فيهم أحقر منه. فلم يجد بالسوق ما أرادوه فتوجه إلى سوق أخرى وأبطأ وجاءت نوبة السقائين في العرض وهو لم يأت بعد، فأخذوا زقه وماعونه وجعلوه على كاهل صبي، وعرضوه على أنه بلبن فلما نودي اسمه جاز الصبي بين أيديهم وانقضى العرض. ولم ير المنجمون الصورة التي يطلبونها. وجاء بلبن بعد تمام العرض، لما أراد الله من إنفاذ قضائه. ثم إنه ظهرت نجابته، فجعل أمير السقائين، ثم صار من جملة الأجناد، ثم من الأمراء، ثم تزوج السلطان ناصر الدين بنته قبل أن يلي الملك ولما ولي الملك جعله نائبا عنه مدة عشرين سنة، ثم قتله بلبن واستولى على ملكه عشرين سنة أخرى كما تقدم ذكر ذلك، وكان للسلطان بلبن ولدان أحدهما الخان الشهيد ولي عهده، وكان واليا لأبيه ببلاد السند، ساكنا بمدينة ملتان وقتل في حرب له مع التتر، وترك ولدين: كي قباد وكي خسرو. وولد السلطان بلبن الثاني يسمى ناصر الدين، وكان واليا لأبيه ببلاد اللكنوتي وبنجالة. فلما استشهد الخان الشهيد جعل السلطان بلبن العهد إلى ولده كي خسرو، وعدل به عن ابن نفسه ناصر الدين وكان لناصر الدين كذلك ولد ساكن بحضرة دهلي مع جده بيسمى معز الدين، وهو الذي تولى الملك بعد جده في خبر عجيب نذكره، وأبوه إذ ذاك حي كما ذكرناه. ذكر السلطان معز الدين بن ناصر ابن السلطان غياث الدين بلبن صفحة : 213 ولما توفي السلطان غياث الدين ليلا، وابنه ناصر الدين غائب ببلاده اللكنوتي، وجعل العهد لابن ابنه الشهيد كي خسرو، حسبما قصصناه، كان ملك الأمراء نائب السلطان غياث الدين عدوا لكي خسرو فأراد عليه حيلة تمت، وهي أنه كتب بيعة دلس فيها على خطوط الأمراء الكبار بأنهم بايعوا السلطان معز الدين حفيد السلطان بلبن ودخل على كي خسرو كالمتنصح له فقال له: إن الأمراء قد بايعوا ابن عمك، وأخاف عليك منهم. فقال كي خسروا: فما الحيلة ? قال: انج بنفسك هاربا إلى بلاد السند فقال: وكيف الخروج والأبواب مسدودة ? قال له: إن المفاتيح بيدي، وأنا أفتح لك فشكره على ذلك وقبل يده، وقال له: اركب الآن، فركب في خاصته ومماليكه، وفتح له الباب وأخرجه، وسد في أثره، واستأذن على معز الدين فبايعه، فقال: كيف لي بذلك وولاية العهد لابن عمي ? فأعلمه بما أدار عليه من الحيلة، وبإخراجه. فشكره على ذلك ومضى به إلى دار الملك، وبعث إلى الأمراء والخواص فبايعوا ليلا فلما أصبح بايعه سائر الناس واستقام له الملك وكان أبوه حيا ببلاد بنجالة واللكنوتي فاتصل به الخبر فقال: أنا وارث الملك وكيف يلي ابني الملك ويستقل به وأنا بقيد الحياة ? فتجهز في جيوشه قاصدا حضرة دهلي، وتجهز ولده في جيوشه كذلك قاصدا لمدافعته عنها، فتوفيا معا بمدينة كرا، وهي على ساحل نهر الكنك الذي تحج الهنود إليه فنزل ناصر الدين على شاطئه مما يلي كرا ونزل ولده السلطان معز الدين مما يلي الجهة الأخرى، والنهر بينهما وعزما على القتال، ثم أن الله تعالى أراد حقن دماء المسلمين، فألقى في قلب ناصر الدرين الرحمة لآبنه وقال: إذا ملك ولدي فذلك شرف، وأنا أحق أن أرغب في ذلك، وألقى في قلب السلطان معز الدين الضراعة لأبيه فركب كل واحد منهما منفردا عن جيوشه، والتقيا في وسط النهر فقبل السلطان رجل أبيه واعتذر له. فقال له أبوه: قد وهبتك ملكي ووليتك وبايعه وأراد الرجوع إلى بلاده فقال له ابنه: لا بد لك من الوصول إلى بلادي، فمضى معه إلى دهلي، ودخل القصر وأقعده أبوه على سرير الملك ووقف بين يديه وسمي ذلك اللقاء الذي كان بينهما بالنهر: لقاء السعدين، لما كان فيه من حقن الدماء، وتواهب الملك والتجافي عن المنازعة. وأكثرت الشعراء في ذلك. وعاد ناصر الدين إلى بلاده، فمات بها بعد سنين وترك بها ذرية منهم غياث الدين بهادور الذي أسره السلطان تغلق وأطلقه ابنه محمد بعد وفاته، واستقام الملك لمعز الدين أربعة أعوام بعد ذلك وكانت كالأعياد. رأيت بعض من أدركها يصف خيراتها ورخص أسعراها، وجود معز الدين وكرمه وهو الذي بني الصومعة بالصحن الشمالي من جامع دهلي ولا نظير لها في البلاد. وحكى لي بعض أهل الهند أن معز الدين كان يكثر النكاح والشرب، فاعتلته علة أعجز الأطباء دواؤها، ويبس أحد شقيه فقام عليه نائبه جلال الدين فيروزشاة الخلجي بفتح الخاء المعجم واللام والجيم . ذكر السلطان جلال الدين صفحة : 214 ولما اعترى السلطان معز الدين ما ذكرناه من يبس أحد شقيه خالف عليه نائبه جلال الدين وخرج إلى ظاهر المدينة فوقف على تل هنالك بجانب قبة تعرف بقبة الجيشاني. فبعث معز الدين الأمراء لقتاله، فكان كل من يبعثه منهم يبايع جلال الدين ويدخل في جملته ثم دخل المدينة وحصره في القصر ثلاثة أيام. وحدثني من شاهد ذلك أن السلطان معز الدين أصابه الجوع في تلك الأيام، فلم يجد ما يأكله، فبعث إليه أحد الشرفاء من جيرانه ما أقام أوده، ودخل عليه القصر فقتل، وولي بعده جلال الدين وكان حليما فاضلا، وحلمه أداه إلى القتل، كما سنذكره واستقام له الملك سنين وبنى القصر المعروف باسمه، وهو الذي أعطاه السلطان محمد لصهره الأمير غدا بن مهنا، لما زوجه، بأخته، وسيذكر ذلك، فكان للسلطان جلال الدين ولد اسمه ركن الدين، وابن أخ اسمه علاء الدين زوجه بابنته وولاه مدينة كرا ومانكبور ونواحيها، وهي من أخصب بلاد الهند كثيرة القمح والأرز والسكر وتصنع بها الثياب الرفيعة، ومنها تجلب إلى دهلي، وبينهما مسيرة ثمانية عشر يوما وكانت زوجة علاء الدين تؤذيه، فلا زال يشكوها إلى عمه السلطان جلال الدين حتى وقعت الوحشة بينهما بسببها وكان علاء الدين شهما شجاعا مظفرا منصورا، وحب الملك ثابت في نفسه، إلا أنه لم يكن له مال إلا ما يستفيده بسيفه من غنائم الكفار. فاتفق أنه ذهب مرة إلى الغزو ببلاد الدويقير، وتسمى بلاد الكتكة أيضا وسنذكرها، وهي كرسي بلاد المالوه والمرهتة، وكان سلطانها أكبر سلاطين الكفار، فعثرت بعلاء الدين بتلك الغزوة دابة له عند حجر فسمع له طنينا، فأمر بالحفر هنالك فوجد تحته كنزا عظيما، ففرقه في أصحابه ووصل إلى الدويقير، فأذعن له سلطانها بالطاعة، ومكنه من المدينة من غير حرب وأهدى له هدايا عظيمة فرجع إلى المدينة كرا، ولم يبعث إلى عمه شيئا من الغنائم فأغرى الناس عمه به فبعث إليه، فامتنع من الوصول إليه فقال السلطان جلال الدين أنا أذهب إليه وآتي به فإنه محل ولدي فتجهز في عساكره وطوى المراحل حتى حل بساحل مدينة كرا، حيث نزل السلطان معز الدين لما خرج إلى لقاء أبيه ناصر الدين، وركب النهر برسم الوصول إلى ابن أخيه، وركب ابن أخيه أيضا في مركب ثان عازما على الفتك به وقال لأصحابه: إذا أنا عانقته فاقتلوه فلما التقيا وسط النهر عانقه ابن أخيه وقتله أصحابه كما وعدهم، واحتوى على ملكه وعساكره. ذكر السلطان علاء الدين محمد شاه الخلجي صفحة : 215 ولما قتل عمه استقل بالملك، وفر إليه أكثر عساكر عمه، وعاد بعضهم إلى دهلي، واجتمعوا على ركن الدين وخرج إلى دفاعه فهربوا جميعا إلى السلطان علاء الدين، وفر ركن الدين إلى السند، ودخل علاء الدين دار الملك، واستقام له الأمر عشرين سنة. وكان من خيار السلاطين وأهل الهند يثنون عليه كثيرا، وكان يتفقد أمور الرعية بنفسه، ويسأل عن أسعارهم، ويحضر المحتسب وهم يسمونه الرئيس في كل يوم برسم ذلك ويذكر أنه سأله يوما عن سبب غلاء اللحم، فأخبره أنه ذلك لكثرة المغرم على البقر في المرتب فأمر برفع ذلك، وأمر بإحضاره التجار وأعطاهم الأموال وقال لهم: اشتروا بها البقر والغنم وبيعوها، ويرتفع ثمنها لبيت المال، ويكون لكم أجرة على بيعها ففعلوا ذلك، وفعل مثل هذا في الأثواب التي يؤتى بها من دولة أباد وكان إذا غلا ثمن الزرع فتح المخازن وباع الزرع حتى يرخص السعر. ويذكر أن السعر ارتفع ذات مرة فأمر ببيع الزرع بثمن عينه، فامتنع الناس من بيعه بذلك الثمن، فأمر ألا يبيع أحد زرعا غير زرع المخزن وباع للناس ستة أشهر، فخاف المحتكرون فساد زرعهم بالسوس فرغبوا أن يؤذن لهم على أن يبيعوه بأقل من القيمة الأولى التي امتنعوا من بيعه بها. وكان لا يركب لجمعة ولا لعيد ولا سواهما وسبب ذلك إنه كان له ابن أخ يسمى سليمان شاه وكان يحبه ويعظمه، فركب يوما إلى الصيد وهو معه، وأضمر في نفسه أن يفعل ما فعل هو بعمه جلال الدين من الفتك فلما نزل للغداء، رماه بنشابة فصرعه وغطاه بعض عبيده بترس وأتى ابن أخيه ليجهز عليه، فقال له العبيد: إنه قد مات فصدقهم وركب فدخل القصر على الحرم وأفاق السلطان علاء الدين من غشيته وركب، واجتمعت العساكر عليه، وفر ابن أخيه فأدرك وأتي به إليه فقتله، وكان بعد ذلك لا يركب. وكان له من الأولاد خضر خان وشادي خان وأبو بكر خان ومبارك خان، وهو قطب الدين الذي ولي الملك، وشهاب الدين. وكان قطب الدين مهتضما عنده ناقص الحظ قليل الحظوة وأعطى جميع إخوته المراتب، وهي الأعلام والأطبال، ولم يعطه شيئا؛ وقال له يوما، لا بد أن أعطيك مثل ما أعطيت إخوتك فقال له: الله هو الذي يعطيني فهال أباه هذا الكلام وفزع منه. ثم إن السلطان اشتد عليه المرض، وكانت زوجته أم ولده خضر خان، وتسمى ماه حق، والماه القمر بلسانهم، لها أخ يسمى سنجر، فعاهدت أخاها على تمليك ولدها خضر خان وعلم بذلك ملك نائب أكبر أمراء السلطان، وكان يسمى الألفي، لأن السلطان إشتراه بألف تنكة، وهي ألفان وخمسمائة من دنانير المغرب، فوشى إلى السلطان بما اتفقوا عليه، فقال لخواصه إذا دخل علي سنجر فإني معطيه ثوبا، فإذا لبسه، فأمسكوا بأكمامه واضربوا به الأرض واذبحوه فلما دخل عليه فعلوا ذلك وقتلوه وكان خضر خان غائبا، بموضع يقال له: سندبت، على مسيرة يوم من دهلي، توجه لزيارة شهداء مدفونين به، لنذر كان عليه أن يمشي تلك المسافة راجلا ويدعو لوالده بالراحة. فلما بلغه أن أباه قتل خاله حزن عليه حزنا شديدا ومزق جيبه، وتلك عادة لأهل الهند يفعلونها إذا مات لهم من يعز عليهم، فبلغ والده ما فعله فكره ذلك، فلما دخل عليه عنفه ولامه، وأمر به فقيدت يداه ورجلاه، وسلمه لملك نائب المذكور، وأمره أن يذهب إلى حصن كاليور وضبطه بفتح الكاف المعقودة وكسر اللام وضم الياء آخر الحروف وآخره راء ويقال له أيضا كيالير بزيادة ياء ثانية، وهو حصن منقطع بين كفار الهنود منيع على مسيرة عشر من دهلي، وقد سكنته أنا مدة، فلما أوصله إلى هذا الحصن سلمه للكتوال وهو أمير الحصن، وللمفردين وهم الزماميون، وقال لهم: لا تقولوا هذا ابن السلطان فتكرموه، إنما هو أعدى عدو له، فاحفظوه كما يحفظ العدو. ثم إن المرض اشتد بالسلطان فقال الملك نائب: ابعث من يأتي بابني خضر خان لأوليه العهد: فقال له نعم وماطله بذلك فمتى سأل عنه، قال: هو ذا يصل إلى أن توفي السلطان رحمه الله. ذكر ابنه السلطان شهاب الدين صفحة : 216 ولما توفي السلطان علاء الدين اقعد ملك نائب ابنه الأصغر شهاب الدين على سرير الملك، وبايعه الناس، وتغلب ملك نائب عليه، وسمل أعين أبي بكر خان وشادي خان، وبعث بهما إلى كاليور، وأمر بسمل عيني أخيهما خضر خان المسجون هنالك، وسجنوا وسجن قطب الدين، لكنه لم تسمل عيناه. وكان للسلطان علاء الدين مملوكان من خواصه، يسمى أحدهما ببشير والآخر بمبشر، فبعثت إليهما الخاتون الكبرى زوجة علاء الدين، وهي بنت السلطان معز الدين، فذكرتهما بنعمة مولاهما، وقالت: إن هذا الفتى ملك نائب قد فعل في أولادي ما تعلمانه، وأنه يريد أن يقتل قطب الدين. فقالا لهما: سترين ما نفعل، وكانت عادتهما أن يبيتا عند نائب ملك ويدخلا عليه بالسلاح، فدخلا عليه تلك الليلة وهو في بيت من الخشب مكسو بالملف يسمونه الخرمقة ينام في أيام المطر فوق سطح القصر، فاتفق أنه أخذ السيف من يد أحدهما فقلبه ورده إليه، فضربه به المملوك وثنى عليه صاحبه، واحتزا رأسه وأتيا به إلى مجلس قطب الدين، فرمياه بين يديه، وأخرجاه. فدخل على أخيه شهاب الدين وأقام بين يديه أياما كأنه نائب له، ثم عزم خلعه فخلعه. ذكر السلطان قطب الدين ابن السلطان علاء الدين وخلع قطب الدين أخاه شهاب الدين وقطع إصبعه، وبعث به إلى كاليور فحبس مع إخوته. واستقام الملك لقطب الدين. ثم إنه بعد ذلك خرج من حضرة دهلي إلى دولة أباد، وهي على مسيرة أربعين يوما منها. والطريق بينهما تكنفه الأشجار من الصفصاف وسواه. فكأن الماشي به في بستان. وفي كل ميل منه ثلاث داوات، وهي البريد وقد ذكرنا ترتيبه، وفي كل داوة جميع ما يحتاج المسافر إليه. فكأنه يمشي في سوق مسيرة الأربعين يوما. وكذلك يتصل الطريق إلى بلاد التلنك. والمعبر مسيرة ستة أشهر. وفي كل منزلة قصر للسلطان وزاوية للوارد والصادر، فلا يفتقر الفقير إلى حمل زاد في ذلك الطريق. ولما خرج السلطان قطب الدين في هذه الحركة اتفق بعض الأمراء على الخلاف عليه وتولية ولد أخيه خضر خان المسجون، وسنه نحو عشرة أعوام، وكان مع السلطان. فبلغ السلطان ذلك، فأخذ ابن أخيه المذكور وأمسك برجليه، وضرب برأسه إلى الحجارة حتى نثر دماغه وبعث أحد الأمراء ويسمى ملك شاه إلى كاليور حيث أبو هذا الولد وأعمامه وأمره بقتلهم جميعا. فحدثني القاضي زين الدين مبارك قاضي هذا الحصن قال: قدم عاينا ملك شاه ضحوة يوم، وكنت عند خضر خان بمحبسه، فلما سمع بقدومه خاف وتغير لونه. ودخل عليه الأمير فقال له: فيم جئت ? قال: في حاجة خوند عالم. فقال له: نفسي سالمة، فقال: نعم، وخرج عنه واستحضر الكتوال وهو صاحب الحصن والمفردين وهم الزماميون، وكانوا ثلاثمائة رجل، وبعث عني وعن العدول، واستظهر بأمر السلطان فقرأوه، وأتوا إلى شهاب الدين المخلوع فضربوا عنقه وهو متثبت غير جزع، ثم ضربوا عنق أبي بكر خان وشادي خان، ولما أتوا ليضربوا عنق خضر خان فزع وذهل، وكانت أمه معه فسدوا الباب دونها، وقتلوه وسحبوهم جميعا في حفرة بدون تكفين ولا غسل. واخرجوا بعد سنين فدفنوا بمقابر آبائهم. وعاشت أم خضر خان مدة، ورايتها بمكة سنة ثمان وعشرين. وحصن كاليور هذا في رأس شاهق كأنه منحوت من الصخر لا يحاذيه جبل، وبداخله جباب الماء ونحو عشرين بئرا عليها الأسوار مضافة إلى الحصن، منصوبا عليها المجانيق والرعادات. ويصعد إلى الحصن في طريق متسعة يصعدها الفيل والفرس. وعند باب الحصن صورة فيل منحوت من الحجر وعليه صورة فيال. وإذا رآه الإنسان على بعد لم يشك أنه فيل حقيقة. وأسفل الحصن مدينة حسنة مبنية كلها بالحجارة البيض المنحوتة، مساجدها ودورها، ولا خشب فيها ماعدا الأبواب. وكذلك دار الملك بها والقباب والمجالس. وأكثر سوقتها كفار، وفيها ستمائة فارس من جيش السلطان لا يزالون في جهاد، لأنها بين الكفار. ولما قتل قطب الدين إخوته واستقل بالملك، ولم يبق من ينازعه ولا من يخالف عليه بعث الله تعالى عليه من خاصته، الحظي لديه أكبر أمرائه وأعظمهم منزله عنده ناصر الدين خسرو خان ففتك به وقتله واستقل بملكه، إلا أن مدته لم تطل بالملك، فبعث الله تعالى عليه من قتله بعد خلعه السلطان تغلق، حسبما يشرح كله مستوفى إن شاء الله تعالى إثر هذا ونسطره. ذكر السلطان خسروخان ناصر الدين صفحة : 217 وكان خسروخان من أكبر أمراء قطب الدين، وهو شجاع حسن الصورة، وكان فتح بلاد جنديري وبلاد المعبر، وهي من أخصب بلاد الهند. وبينهما وبين دهلي مسيرة ستة أشهر. وكان قطب الدين يحبه حبا شديدا ويؤثره، فجر ذلك حتفه على يديه. وكان لقطب الدين معلم يسمى قاضي خان صدر الجهان، وهو أكبر أمرائه وكليت كليد دار، وهو صاحب مفاتيح القصر. وعادته أن يبيت كل ليلة على باب السلطان ومعه أهل النوبة، وهم ألف رجل يبيتون مناوبة بين أربع ليال، ويكونون صفين فيما بين أبواب القصر، وسلاح كل واحد منهم بين يديه، فلا يدخل أحد إلا فيما بين سماطيهم. وإذا تم الليل أتى أهل نوبة النهار. ولأهل النوبة أمراء وكتاب يتطوفون عليهم ويكتبون من غاب منهم أو حضر. وكان معلم السلطان قاضي خان يكره أفعال خسرو خان، ويسوءه ما يراه من إيثاره لكفار الهنود وميله إليهم، وأصله منهم. ولا يزال يلقي ذلك إلى السلطان فلا يسمع منه ويقول له دعه وما يريد، لما أراد الله من قتله على يده. فلما كان في بعض الأيام قال خسرو خان للسلطان: إن جماعة من الهنود يريدون أن يسلموا. ومن عادتهم في تلك البلاد أن الهندي إذا أراد الإسلام أدخل إلى السلطان فيكسوه كسوة حسنة ويعطيه قلادة أو أساور من ذهب على قدره، فقال له السلطان: ائتني بهم. فقال: إنهم يستحيون أن يدخلوا إليك نهارا لأجل أقربائهم وأهل ملتهم. فقال له: ائتني بهم ليلا. فجمع خسرو خان جماعة من شجعان الهنود وكبرائهم، فيهم أخوه خان خانان، وذلك أوان الحر، والسلطان ينام فوق سطح القصر، ولا يكون عنده في ذلك الوقت إلا بعض الفتيان. فلما دخلوا الأبواب الأربعة وهم شاكو السلاح ووصلوا إلى الباب الخامس، وعليه قاضي خان، أنكر شأنهم، وأحس بالشر. فمنعهم من الدخول وقال: لا بد أن أسمع من خوند عالم بنفسي الإذن في دخولهم، وحينئذ يدخلون. فلما منعهم من الدخول هجموا عليه فقتلوه. وعلت الضجة بالباب، فقال السلطان: ما هذا ? فقال خسرو خان: هم الهنود الذين أتوا ليسلموا، فمنعهم قاضي خان من الدخول. وزاد الضجيج، فخاف السلطان وقام يريد الدخول إلى القصر، وكان بابه مسدودا، والفتيان عنده فقرع الباب واحتضنه خسرو خان من خلفه، وكان السلطان أقوى منه فصرعه. ودخل الهنود فقال لهم خسرو خان: هو ذا فوقي فاقتلوه، فقتلوه وقطعوا رأسه ورموا به من سطح القصر إلى صحنه. وبعث خسرو خان من حينه إلى الأمراء والملوك وهم لا يعلمون بما اتفق. فكلما دخلت طائفة وجده على سرير الملك فبايعوه ولما أصبح أعلن بأمره، وكتب المراسم وهي الأوامر إلى جميع البلاد. وبعث لكل أمير خلعة فطاعوا له جميعا. وأذعنوا إلى تغلق شاه ولد السلطان محمد شاه، وكان إذا ذاك وأميرا بدبال بور، من بلاد السند. فلما وصلته خلعة خسرو خان طرحها بالأرض، وجلس فوقها. وبعث إليه أخاه خان خانان فهزمهم. ثم آل أمره إلى أن قتله كما سنشرحه في أخبار تغلق. ولما ملك خسرو خان أثر الهنود، وأظهر أمورا منكرة، منها النهي عن ذبح البقر على قاعدة كفار الهنود، فإنهم لا يجيزون ذبحها، وجزاء من ذبحها عندهم أن يخاط في جلدها ويحرق. وهم يعظمون البقر ويشربون أبوالها للبركة، وللاستشفاء إذا مرضوا. ويلطخون بيوتهم وحيطانهم بأرواثها. وكان ذلك مما بغض خسرو خان إلى المسلمين وأمالهم عنه إلى تغلق، فلم تطل مدة ولايته ولا امتدت أيام ملكه كما سنذكره. ذكر السلطان غياث الدين تغلق شاه صفحة : 218 وضبط اسمه بضم التاء المعلوة وسكون الغين المعجم وضم اللام وآخره قاف حدثني الشيخ الإمام الصالح العالم العامل العابد ركن الدين ابن الشيخ الصالح شمس الدين أبي عبد الله ابن الولي الإمام العالم العابد بهاء الدين زكريا القرشي الملتاني بزاويته. أن السلطان تغلق كان من الأتراك المعروفين بالقرونة بفتح القاف والراء وسكون الواو وفتح النون ، وهم قانطون بالجبال التي بين بلاد السند والترك. وكان ضعيف الحال، فقدم بلاد السند في خدمة بعض التجار، وكان كلوانيا له، والكلواني بضم الكاف المعقود هو راعي الخيل جلوبان ، وذلك على أيام السلطان علاء الدين، وأمير السند إذ ذاك أخوه أولوخان بضم الهمزة واللام فخدمه تغلق، وتعلق بجانبه، فرتبه في البياة بكسر الباء الموحدة وفتح الياء آخر الحروف ، وهم الرجالة. ثم ظهرت نجابته فأثبت في الفرسان، ثم كان من الأمراء الصغار وجعله أولوخان أمير خيله. ثم كان بعد ذلك من الأمراء الكبار، وسمي بالملك الغازي، ورأيت مكتوبا على مقصورة الجامع بملتان، وهو الذي أمر بعملها، إني قاتلت التتر تسعا وعشرين مرة، فهزمتهم. فحينئذ سميت بالملك الغازي. ولما ولي قطب الدين ولاه مدينة دبال بور وعمالتها وهي بكسر الدال المهمل وفتح الباء الموحدة ، وجعل ولده الذي هو الآن سلطان الهند أمير خيله، وكان يسمى جونه بفتح الجيم والنون ولما ملك تسمى بمحمد شاه. ثم لما قتل قطب الدين وولي خسرو خان أبقاه الله على إمارة الخيل. فلما أراد تغلق الخلاف كان له ثلاثمائة من أصحابه الذين يعتمد عليهم في القتال، وكتب إلى كشلوخان، وهو يومئذ بملتان، وبينهما وبين دبال بور ثلاثة أيام، يطلب منه القيام بنصرته، ويذكره نعمة قطب الدين، ويحرضه على طلب ثأره. وكان ولد كشلو خان بدهلي فكتب إلى تغلق أنه لو كان ولدي عندي لأعنتك على ما تريد. فكتب تغلق إلى ولده محمد شاه يعلمه بما عزم عليه، ويأمره أن يفر إليه ويستصحب معه ولد كشلو خان، فأدار ولده الحيلة على خسرو خان. وتمت له كما أراد، فقال له: إن الخيل قد سمنت وتبدنت وهي تحتاج البراق وهو التضمير، فأذن له في تضميرها. فكان يركب كل يوم في أصحابه فيسير بها الساعة والساعتين والثلاث، واستمر إلى أربع ساعات، إلى أن غاب يوما إلى وقت الزوال، وذلك وقت طعامهم، فأمر السلطان بالركوب في طلبه، فلم يوجد له خبر. ولحق بأبيه واستصحب معه ولد كشلو خان. وحينئذ أظهر تغلق الخلاف، وجمع العساكر وخرج معه كشلو خان في أصحابه، وبعث السلطان أخاه خان خانان لقتالهما، فهزماه شر هزيمة، وفر عسكره إليهما، ورجع خان خانان إلى أخيه، وقتل أصحابه، وأخذت خزائنه وأمواله وقصد تغلق حضرة دهلي. صفحة : 219 وخرج إليه خسروخان في عساكره، ونزل بخارج دهلي بموضع يعرف بآصيا أباد آسياباد ومعنى ذلك رحى الريح، وأمر بالخزائن ففتحت، وأعطى الأموال بالبدر، لا بوزن ولا عد. ووقع اللقاء بينه وبين تغلق، وقاتلت الهنود أشد قتال. وانهزمت عساكر تغلق، ونهبت محلته، وانفرد في أصحابه الأقدمين الثلاثمائة، فقال لهم: إلى أين الفرار حيثما أدركنا قتلنا، واشتغلت عساكر خسرو خان بالنهب، وتفرقوا عنه ولم يبق معه الا قليل. فقصد تغلق وأصحابه موقفه، والسلطان هنالك يعرف بالشطر جتر الذي يرفع فوق رأسه، وهو الذي يسمى بديار مصر القبة، والطير، ويرفع بها في الأعياد. وأما بالهند والصين فلا يفارق السلطان في سفر ولا حضر. فلما قصده تغلق وأصحابه حمي القتال بينهم وبين الهنود. وانهزم أصحاب السلطان ولم يبق معه أحد، وهرب فنزل عن فرسه ورمى بثيابه وسلاحه، وبقي في قميص واحد، وأرسل شعره بين كتفيه كما يفعل فقراء الهند، ودخل بستانا هنالك. واجتمع الناس على تغلق، وقصد المدينة، فأتاه الكتوال بالمفاتيح، ودخل القصر ونزل بناحية منه وقال لكشلو خان: أنت تكون السلطان. فقال كشلو خان: بل أنت تكون السلطان. وتنازعا، فقال له كشلو خان: فإن أبيت أن تكون سلطانا فيتولى ولدك. فكره هذا، وقبل حينئذ، وقعد على سرير الملك وبايعه الخاص والعام، ولما كان بعد ثلاث اشتد لجوع بخسرو خان، وهو مختف بالبستان، فخرج وطاف به فوجد القيم فسأله طعاما فلم يكن عنده فأعطاه خاتمه وقال: اذهب فارهنه في طعام فلما ذهب بالخاتم إلى السوق أنكر الناس أمره ورفعوه إلى الشحنة وهو الحاكم فأدخله على السلطان تغلق فأعلمه بمن دفع إليه الخاتم. فبعث ولده محمدا ليأتي به فقبض عليه وأتاه به راكبا على تتو بتائين مثناتين أولاهما مفتوحة والثانية مضمومة ، وهو البرذون. فلما مثل بين يديه قال له: إني جائع فأتني بطعام. فأمر له بالشربة ثم الطعام ثم بالقفاع ثم بالتنبول. فلما أكل قام قائما وقال: يا تغلق افعل معي فعل الملوك، ولا تفضحني. فقال له: لك ذلك. وأمر به فضربت رقبته وذلك في الموضع الذي قتل هو به قطب الدين، ورمي برأسه وجسده من أعلى السطح كما فعل هو برأس قطب الدين، وبعد ذلك أمر بغسله وتكفينه. ودفن في مقبرته، واستقام الملك لتغلق أربعة أعوام. وكان عادلا فاضلا. ذكر ما رامه ولده من القيام عليه فلم يتم له ذلك ولما استقر تغلق بدار الملك بعث ولده ليفتح بلاد التلنك وضبطها بكسر التاء المعلوة واللام وسكون النون وكاف معقودة وهي على مسيرة ثلاثة أشهر من مدينة دهلي. وبعث معه عسكرا عظيما فيه كبار الامراء، مثل الملك تمور بفتح التاء المعلوة وضم الميم وآخره راء ومثل الملك تكين بكسر التاء المعلوة والكاف وآخره نون ومثل ملك كافور والمهردار بضم الميم ومثل ملك بيرم بالباء الموحدة مفتوحة والياء أخر الحروف والراء مفتوحة وسواهم. فلما بلغ إلى أرض التلنك أراد المخالفة. وكان له نديم من الفقهاء الشعراء يعرف بعبيد، فأمره أن يلقي إلى الناس أن السلطان تغلق توفي، وظنه أن الناس يبايعونه مسرعين إذا سمعوا ذلك. فلما ألقى ذلك إلى الناس أنكره الأمراء، وضرب كل واحد منهم طبله وخالف، فلم يبق معه أحد. وأرادوا قتله، فمنعهم منه ملك تمور، وقام دونه. ففر إلى أبيه في عشرة من الفرسان سماهم ياران موافق، ومعناه الأصحاب الموافقون. فأعطاه أبوه الأموال والعساكر وأمره بالعود إلى تلنك فعاد إليها. وعلم أبوه بما كان أراد. فقتل الفقيه عبيدا، وأمر بملك كافور المهردار فدق له عمود في الأرض محدود الطرف، وركز في عنقه حتى خرج من جنبه طرفه، ورأسه، إلى أسفل. وترك على تلك الحال. وفر من بقي من الأمراء إلى السلطان شمس الدين ابن السلطان ناصر الدين ابن السلطان غياث الدين بلبن، واستقروا عنده. ذكر مسير تغلق إلى بلاد اللكنوتي وما اتصل لذلك إلى وفاته صفحة : 220 وأقام الأمراء الهاربون عند السلطان شمس الدين، ثم إن شمس الدين توفي، وعهد لولده شهاب الدين فجلس مجلس أبيه. ثم غلب عليه أخوه الأصغر غياث الدين بهادور، بورة، ومعناه بالهندية الأسود، واستولى على الملك، وقتل أخاه قطلوخان وسائر إخوته. وفر شهاب الدين وناصر الدين منهم إلى تغلق، فتجهز معهما لقتال أخيهما، وخلف ولده محمدا نائبا عنه في ملكه، وجد السير إلى بلاد اللكنوتي فانتصر عليها، وأسر سلطانها غياث الدين بهادور، وقدم به أسيرا إلى حاضرة ملكه. وكان بمدينة دهلي الوالي نظام الدين البذواني، ولا يزال محمد شاه ابن السلطان يتردد إليه. ويعظم خدامه، ويسأله الدعاء. وكان يأخذ الشيخ حال تغلب عليه. فقال ابن السلطان لخدامه؛ إذا كان الشيخ في حاله التي تغلب عليه فأعلموني بذلك. فلما أخذته الحال أعلموه فدخل عليه، فلما رآه الشيخ قال: وهبنا لك الملك، ثم توفي الشيخ في أيام غيبة السلطان. فحمل ابنه محمد نعشه على كاهله، فبلغ ذلك أباه فأنكره وتوعده. وكان قد رأى منه أمورا، ونقم عليه استكثاره من شراء المماليك، وإجزاله العطايا، واستجلاله قلوب الناس، فزاد حنقه عليه. وبلغه أن المنجمين زعموا أنه لا يدخل مدينة دهلي بعد سفره ذلك فتوعده. ولما عاد من سفره وقرب من الحاضرة أمر ولده أن يبني له قصرا، وهم يسمونه الكشك بضم الكاف وشين معجم مسكن على واد هنالك يسمى أفغان بور، فبناه في ثلاثة أيام. وجعل أكثر بنائه بالخشب، مرتفعا على الأرض، قائما على سواري خشب، وأحكمه بهندسة تولى النظر فيها الملك زاده المعروف بعد ذلك بخواجه جهان، واسمه أحمد بن إياس، كبير وزراء السلطان محمد، وكان إذ ذاك شحنة العمارة. وكانت الحكمة التي اخترعوها فيه أنه متى وطئت الفيلة جهة منه وقع ذلك القصر وسقط. ونزل السلطان بالقصر وأطعم الناس وتفرقوا. واستأذنه ولده في أن يعرض الفيلة بين يديه وهي مزينة فأذن له. وحدثني الشيخ ركن الدين أنه كان يومئذ مع السلطان ومعهما ولد السلطان المؤثر لديه محمود، فجاء محمد ابن السلطان فقال للشيخ: يا خوند هذا وقت العصر، انزل فصل، قال لي الشيخ: فنزلت. وأتي بالأفيال من جهة واحدة حسبما دبروه، فلما وطئتها سقط الكشك على السلطان وولده محمود، قال الشيخ: فسمعت الضجة، فعدت ولم أصل، فوجدت الكشك قد سقط. فأمر ابنه أن يؤتى بالفؤوس والمساحي للحفر عنه، وأشار بالإبطاء، فلم يؤت بهما إلا وقد غربت الشمس. فحفروا ووجدوا السلطان قد حنى ظهره على ولده ليقيه الموت. فزعم بعضهم أنه خرج ميتا وزعم بعضهم أنه أخرج حيا فأجهز عليه، وحمل ليلا إلى مقبرته التي بناها خارج البلدة المسماة باسمه تغلق أباد فدفن بها. وقد ذكرنا السبب في بنائه لهذه المدينة. وبها كانت خزائن تغلق وقصوره، وبه القصر الأعظم الذي جعل قراميده مذهبة، فإذا طلعت الشمس كان لها نور عظيم وبصيص يمنع البصر من إدامة النظر إليها، واختزن بها الأموال الكثيرة. ويذكر أنه صهريجا وأفرغ فيه الذهب إفراغا، فكان قطعة واحدة. فصرف جميع ذلك ولده محمد شاه لما ولي، وبسبب ما ذكرناه من هندسة الوزير خواجه جهان في بناء الكشك الذي سقط على تغلق، وكانت حظوته عند ولده محمد شاه وإيثاره، فلم يكن أحد يدانيه في المنزلة لديه، ولا يبلغ مرتبته عنده من الوزراء ولا غيرهم. ذكر السلطان أبي المجاهد محمد شاه ابن السلطان غياث الدين تغلق شاه ملك الهند والسند الذي قدمنا عليه ولما مات السلطان تغلق استولى ابنه محمد على الملك من غير منازع له ولا مخالف عليه. وقد قدمنا أنه كان اسمه جونه. فلما ملك تسمى بمحمد، واكتنى بأبي المجاهد. وكل ما ذكرت من شأن سلاطين الهند، فهو مما أخبرت به وتلقيته أو معظمه من الشيخ كمال الدين بن البرهان الغزنوي قاضي القضاة. وأما أخبار هذا الملك فمعظمها مما شاهدته أيام كوني ببلاده. ذكر وصفه صفحة : 221 هذا الملك أحب الناس في إسداد العطايا وإراقة الدماء. فلا يخلو بابه عن فقير يغنى أو حي يقتل. وقد شهرت في الناس حكاياته في الكرم والشجاعة، وحكاياته في الفتك والبطش بذوي الجنايات. وهو أشد الناس مع ذلك تواضعا وأكثرهم إظهارا للعدل والحق. وشعائر الدين عنده محفوظة. وله اشتداد في أمر لصلاة والعقوبة على تركها. وهو من الملوك الذين اطردت سعادتهم، وخرق المعتاد يمن نقيبتهم. ولكن الأغلب عليه الكرم. وسنذكر من أخباره فيه عجائب لم يسمع بمثلها عمن تقدمه. وأما أشهد بالله وملائكته ورسله أن جميع ما أنقله عنه من الكرم الخارق للعادة حق يقين وكفى بالله شهيدا، وأعلم أن بعض مآثره من ذلك لا يسوغ في عقل كثير من الناس ويعدونه من قبيل المستحيل عادة، ولكنه شيء عاينته وعرفت صحته وأخذت بحظ وافر منه. لا يسعني إلا قول الحق فيه. وأكثر ذلك ثابت بالتواتر في بلاد المشرق. ذكر أبوابه ومشوره وترتيب ذلك ودار السلطان بدهلي تسمى دار سرى بفتح السين المهمل والراء ، ولها أبواب كثيرة. أما الباب الأول فعليه جملة من الرجال موكلون به، ويقعد به أهل الأنفار والأبواق والصرنايات. فإذا جاء أمير أو كبير ضربوها، ويقولون في ضربهم: جاء فلان. وكذلك أيضا في البابين الثاني والثالث. وبخارج الباب الأول دكاكين يقعد عليها الجلادون، وهم الذين يقتلون الناس. فإن العادة عندهم أنه متى أمر السلطان بقتل أحد قتل على باب المشور، ويبقى هنا ثلاثا. وبين البابين الأول والثاني دهليز كبير، فيه دكاكين مبنية من جهتيه، يقعد عليها أهل النوبة من حفاظ الأبواب. وأما الباب الثاني فيقعد عليه البوابون الموكلون به. وبينه وبين الباب الثالث دكانة كبيرة يقعد عليها نقيب النقباء، وبين يديه عمود ذهب يمسكه بيده، وعلى رأسه كلاه من الذهب مجوهرة في أعلاها ريش الطواويس، والنقباء بين يديه على رأس كل واحد منهم شاشية مذهبة، وفي وسطه منطقة، وبيده سوطا نصابه من ذهب أو فضة، ويفضي هذا الباب الثاني إلى مشور كبير متسع يقعد به الناس. وأما الباب الثالث فعليه دكاكين يقعد فيها كتاب الباب. ومن عوائدهم أن لا يدخل على هذا الباب أحد إلا من عينه السلطان لذلك. ويعين لكل إنسان عدد من أصحابه. وناسه يدخلون معه. وكل من يأتي إلى هذا الباب يكتب الكتاب أن فلانا جاء في الساعة الفلانية من الساعات إلى آخر النهار، ويطالع السلطان بذلك بعد العشاء الآخرة. ويكتبون أيضا بكل ما يحدث من الباب من الأمور. وقد عين من أبناء الملوك من يوصل ما يكتبونه إلى السلطان. ومن عوائدهم أيضا أنه من غاب عن دار السلطان ثلاثة أيام فصاعدا لعذر أو لغير عذر، فلا يدخل هذا الباب بعدها إلا بإذن من السلطان. فإن كان له عذر من مرض أو غيره، قدم بين يديه هدية مما يناسب إهداءها إلى السلطان. وكذلك القادمون من الأسفار. فالفقيه يهدي المصحف والكتاب، وشبه الفقير يهدي المصلى والسبحة والمسواك ونحوها، والأمراء ومن أشبههم يهدون الخيل والجمال والسلاح. وهذا الباب الثالث يفضي إلى المشور الهائل الفسيح المسمى هزار أسطون بفتح الهاء والزاي وألف وراء ومعنى ذلك ألف سارية، وهو سواري من خشب مدهونة، عليها سقف خشب منقوش أبدع نقش، يجلس الناس تحتها. وبهذا المشور يجلس السلطان الجلوس العام. ذكر ترتيب جلوسه صفحة : 222 أكثر جلوسه بعد العصر، وربما جلس أول النهار. وجلوسه على مصطبة مفروشة بالبياض فوقها مرتبة. ويجعل خلف ظهره مخدة كبيرة، وعن يمينه متكأ، وعن يساره مثل ذلك. وقعوده كجلوس الإنسان للتشهد في الصلاة، وهو جلوس أهل الهند كلهم. فإذا جلس وقف أمامه الوزير، ووقف الكتاب خلف الوزير، وخلفهم الحجاب، وكبير الحجاب هو فيروز ملك ابن عم السلطان ونائبه، وهو أدنى الحجاب من السلطان، ثم يتلوه خاص حاجب، ثم يتلوه نائب خاص حاجب، ووكيل الدار ونائبه، وشرف الحجاب وسيد الحجاب، وجماعة تحت أيديهم. ثم يتلو الحجاب النقباء، وهم نحو مائة. وعند جلوس السلطان ينادي الحجاب والنقباء بأعلى أصواتهم: بسم الله. ثم يقف على رأس السلطان الملك الكبير قبولة وبيده المذبة يشرد بها الذباب، ويقف مائة من السلحدارية عن يمين السلطان ومثلهم عن يساره، بأيديهم الدرق والسيوف والقسي. ويقف في الميمنة والميسرة بطول المشور قاضي القضاة ويليه خطيب الخطباء ثم كبار الفقهاء ثم كبار الشرفاء والمشايخ ثم إخوة السلطان وأصهاره ثم الأمراء الكبار ثم كبار الأعزة وهم الغرباء ثم القواد. ثم يؤتى بستين فرسا مسرجة ملجمة بجهازات سلطانية، فمنها ما هو بشعار الخلافة، وهي التي لجمها ودوائرها من الحرير الأسود المذهب، ومنها ما يكون من الحرير الأبيض المذهب. ولا يركب بذلك غير السلطان، فيوقف النصف من هذه الخيل عن اليمين والنصف عن الشمال، بحيث يراها السلطان. ثم يؤتى بخمسين فيلا مزينة بثياب الحرير والذهب، مكسوة أنيابها بالحديد إعدادا لقتل أهل الجرائم، وعلى عنق كل فيل فياله وبيده شبه الطبرزين من الحديد يؤدبه به، ويقومه لما يراد منه، وعلى ظهر كل فيل شبه الصندوق العظيم يسع عشرين من المقاتلة، وأكثر من ذلك ودونه على حسب ضخامة الفيل وعظم جرمه، وفي أركان هذا الصندوق أربعة أعلام مركوزة. وتلك الفيلة معلمة أن تخدم السلطان وتحط رؤوسها. فإذا خدمت قال الحجاب: بسم الله بأصوات عالية. ويوقف أيضا نصفها عن اليمين ونصفها عن الشمال خلف الرجال الواقفين. وكل من يأتي من الناس المعينين للوقوف في الميمنة أو الميسرة يخدم عند موقف الحجاب ويقول: بسم الله. ويكون ارتفاع أصواتهم بقدر ارتفاع صوت الذي يخدم. فإذا خدم انصرف إلى موقفه من الميمنة أو الميسرة لا يتعداه، ومن كان من كفار الهنود يخدم، ويقول له الحجاب والنقباء: هداك الله، ويقف عبيد السلطان من وراء الناس كلهم، بأيديهم الترسة والسيوف، فلا يمكن الدخول بينهم إلا بين يدي الحجاب القائمين بين يدي السلطان. ذكر دخول الغرباء وأصحاب الهدايا إليه وإن كان بالباب أحد ممن قدم على السلطان بهدية دخل الحجاب إلى السلطان على ترتيبهم، يقدمهم أمير حاجب ونائبه خلفه، ثم خاص حاجب ونائبه خلفه، ثم وكيل الدار ونائبه، ثم سيد الحجاب وشرف الحجاب، ويخدمون في ثلاثة مواضع. ويعلمون السلطان بمن في الباب. فإذا أمرهم أن يأتوا به جعلوا الهدية التي ساقها بأيدي الرجال يقومون بها أمام الناس بحيث يراها السلطان ويستدعى صاحبها، فيخدم قبل الوصول إليه ثلاث مرات، ثم يخدم عند موقف الحجاب. فإن كان رجلا كبيرا وقف في صف أمير حاجب، وإلا وقف خلفه. ويخاطبه السلطان بنفسه ألطف خطاب ويرحب به. وإن كان ممن يستحق التعظيم فإنه يصافحه أو يعانقه، ويطلب بعض هديته فتحضر بين يديه. فإن كانت من السلاح أو الثياب قلبها بيده، وأظهر استحسانها جبرا لخاطر مهديها وإيناسا له ورفقا به، وخلع عليه، وأمر له بماء لغسل رأسه، على عادتهم في ذلك بمقدار ما يستحقه المهدي. ذكر دخول هدايا عماله إليه صفحة : 223 وإذا أتى العمال بالهدايا والأموال المجتمعة من مجابي البلاد صنعوا الأواني من الذهب والفضة مثل الطسوت والأباريق وسواها، وصنعوا من الذهب والفضة قطعا شبه الآجر يسمونها الخشت بكسر الخاء المعجمة وسكون الشين المعجم وتاء معلوة ، ويقف العراشون، وهن عبيد السلطان صفا، والهدية بأيديهم. كل واحد منهم ممسك قطعة، ثم يقدم الفيلة إن كان في الهدية شيء منها، ثم الخيل المسرجة الملجمة، ثم الجمال عليها الأموال. ولقد رأيت الوزير خواجه جهان قدم هديته ذات يوم حين قدم السلطان من دولة أباد، ولقيه بها في ظاهر مدينة بيانة، فأدخلت الهدية إليه على هذا الترتيب. ورأيت في جملتها صينية مليئة بأحجار الياقوت وصينية مليئة بأحجار الزمرد وثالثة باللؤلؤ الفاخر. وكان حاجي كاون ابن عم السلطان أبي سعيد ملك العراق حاضرا عنده حين ذلك، فأعطاه حظا منها. وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى. ذكر خروجه للعيدين وما يتصل بذلك واذا كانت ليلة العيد بعث السلطان إلى الملوك والخواص وأرباب الدولة والاعزة والكتاب والحجاب والنقباء والقواد والعبيد وأهل الأخبار الخلع التي تعمهم جميعا. فإذا كانت صبيحة العيد زينت الفيلة بالحرير والذهب والجواهر، ويكون منها ستة عشر فيلا لا يركبها أحد، إنما هي مختصة بركوب السلطان. ويرفع عليها ست عشر شطرا جترا من الحرير مرصعة بالجوهر، قائمة كل شطر منها ذهب خالص. وعلى كل فيل مرتبة حرير مرصعة بالجوهر. ويركب السلطان فيلا منها، وترفع أمامة الغاشية وهي ستارة سرجة، وتكون مرصعة بأنفس الجوهر. ويمشي بين يديه عبيده ومماليكه. وكل واحد منهم تكون على رأسه شاشية ذهب، وعلى وسطه منطقة ذهب، وبعضهم يرصعها بالجوهر. ويمشي بين يديه أيضا النقباء، وهم نحو ثلثمائة. وعلى رأس كل واحد منهم أقروف ذهب، وعلى وسطه منطقة ذهب، وفي يده مقرعة نصابها ذهب، ويركب قاضي القضاة صدر الجهان كمال الدين الغزنوي وقاضي القضاة صدر الجهان ناصر الدين الخوارزمي وسائر القضاة وكبار الأعزة من الخراسانيين والعراقيين والشاميين والمصريين والمغاربة، كل واحد منهم على مطية، وجميع الغرباء عندهم يسمون الخراسانيين، ويركب المؤذنون على الفيلة وهم يكبرون. ويخرج السلطان من باب القصر على هذا الترتيب، والعساكر تنتظره، كل أمير بفوجه على حدة معه طبوله وأعلامه، فيقدم السلطان وأمامه من ذكرناه المشاة، وأمامهم القضاة والمؤذنون يذكرون الله تعالى، وخلف السلطان مراتبه وهي الأعلام والطبول والأبواق والأنفار والصرنايات، وخلفهم جميع أهل دخلته، ثم يتلوهم أخو السلطان مبارك خان بمراتبه وعساكره، ثم يليه ابن أخ السلطان بهرام خان بمراتبه وعساكره، ثم يليه ابن عمه ملك فيروز بمراتبه وعساكره، ثم يليه الوزير بمراتبه وعساكره، ثم يليه الملك مجير بن ذي الرجا بمراتبه وعساكره، ثم يليه الملك الكبير قبولة بمراتبه وعساكره، وهذا الملك كبير القدر عنده عظيم الجاه كثير المال، أخبرني صاحب ديوانه ثقة الملك علاء الدين على المصري المعروف بابن الشرايشي أن نفقته ونفقة عبيدة ومراتبهم ستة وثلاثون لكا في السنة، ثم يليه الملك نكبية بمراتبه وعساكره، ثم يليه الملك بغرة بمراتبه وعساكره، ثم يليه الملك مخلص بمراتبه وعساكره، وهؤلاء هم الأمراء الكبار الذين لا يفارقون السلطان، وهم الذين يركبون معه يوم العيد بالمراتب، ويركب غيرهم من الأمراء دون مراتب. وجميع من يركب في ذلك اليوم يكون مدرعا هو وفرسه. وأكثر مماليك السلطان؛ فإذا وصل السلطان إلى باب المصلى وقف على بابه، وأمر بدخول القضاة وكبار الأمراء وكبار الأعزة، ثم ينزل السلطان، ويصلي الإمام ويخطب. فإن كان عيد الأضحى أتى السلطان بجمل فنحره برمح يسمونه النيزة بكسر النون وفتح الزاي بعد أن يجعل على ثيابه فوطة توقيا من الدم، ثم يركب الفيل ويعود إلى قصره. ذكر جلوسه يوم العيد وذكر السرير الأعظم والمبخرة العظمى صفحة : 224 ويفرش القصر يوم العيد، ويزين بأبدع الزينة. وتضرب الباركة على المشور كله وهي شبه خيمة عظيمة، تقوم على أعمدة ضخام كثيرة، تحفها القباب من كل ناحية، ويصنع به أشجار من حرير ملون فيها شبه الأزهار، ويجعل منها ثلاثة صفوف بالمشور. ويجعل بين كل شجرتين كرسي ذهب عليه مرتبة مغطاة، وينصب السرير الأعظم في صدر المشور وهو من الذهب الخالص كله مرصع القوائم بالجواهر، طوله ثلاثة وعشرون شبرا وعرضه نحو النصف من ذلك، وهو منفصل، وتجمع قطعة فتتصل، وكل قطعة منها يحملها جملة رجال لثقل الذهب، وتجعل فوق المرتبة، ويرفع الشطر المرصع بالجواهر على رأس السلطان. وعندما يصعد على السرير ينادي الحجاب والنقباء بأصوات عالية: بسم الله. ثم يتقدم الناس للسلام. فأولهم القضاة والخطباء والعلماء والشرفاء والمشايخ وإخوة السلطان وأقاربه وأصهاره، ثم الأعزة ثم الوزير ثم أمراء العساكر ثم شيوخ المماليك ثم كبار الأجناد. يسلم واحد إثر واحد من غير تزاحم ولا تدافع. ومن عوائدهم في يوم العيد أن كل من بيده قرية منعم بها عليه يأتي بدنانير ذهب مصرورة في خرقة مكتوب عليها اسمه فيلقيها في طست ذهب هنالك فيجتمع منها مال عظيم يعطيه السلطان لمن شاء. فإذا فرغ الناس من السلام، وضع لهم الطعام على حسب مراتبهم، وينصب في ذلك اليوم المبخرة العظمى، وهي شبه برج من خالص الذهب منفصلة، فإذا أرادوا اتصالها وصلوها. وتحمل القطعة الواحدة منها جملة من الرجال، وفي داخلها ثلاثة بيوت يدخل فيها المبخرون بوقود العود القماري والقاقلي والعنبر الأشهب والجاوي، حتى يعم دخانها المشور كله. ويكون بأيدي الفتيان براميل الذهب والفضة مملوءة بماء الورد وماء الزهر، يصبونه على الناس صبا. وهذا السرير وهذه المبخرة لا يخرجان إلا في العيدين خاصة. ويجلس السلطان في بقية أيام العيد على سرير ذهب دون ذلك. وتنصب باركة بعيدة لها ثلاثة أبواب، يجلس السلطان في داخلها. ويقف على الباب الأول منها عماد الملك سرتيز، وعلى الباب الثاني الملك نكبية، وعلى الباب الثالث يوسف بغرة، ويقف على اليمين أمراء المماليك السلحدارية، وعن اليسار كذلك. ويقف الناس على مراتبهم، وشحنة الباركة ملك طغى بيده عصى ذهب، وبيد نائبه عصا فضة يرتبان الناس ويسويان الصفوف، ويقف الوزير والكتاب خلفه ويقف الحجاب والنقباء، ثم يأتي أهل الطرب، فأولهم بنات الملوك الكفار من هنود المسبيات في تلك السنة فيغنين ويرقصن ويهبهن السلطان للأمراء والأعزة، ثم يأتي بعدهن سائر بنات الكفار، فيغنين ويرقصن ويهبهن لإخوته وأقاربه وأصهاره وأبناء الملوك، ويكون جلوس السلطان لذلك بعد العصر. ثم يجلس في اليوم الذي بعده بعد العصر أيضا على ذلك الترتيب ويؤتى بالمغنيات فيغنين ويرقصن ويهبهن لأمراء المماليك. وفي اليوم الثالث يزوج أقاربه وينعم عليهم. وفي اليوم الرابع يعتق العبيد. وفي اليوم الخامس يعتق الجواري، وفي اليوم السادس يزوج العبيد بالجواري، واليوم السابع يعطي الصدقات ويكثر منها. ذكر ترتيبه إذا قدم من سفره وإذا قدم السلطان من أسفاره، زينت الفيلة، ورفعت على ستة عشر فيلا منها ستة عشر شطرا، منها مزركش ومنها مرصع، وحملت أمامه الغاشية، وهي الستارة المرصعة بالجوهر النفيس، وتصنع قباب الخشب مقسومة على طبقات وتكسى بثياب الحرير. ويكون في كل طبقة الجواري المغنيات، عليهن أجمل لباس وأحسن حلية، ومنهن رواقص. ويحصل في وسط كل قبة حوض كبير، مصنوع من الجلود، مملوء بماء الجلاب محلولا بالماء، يشرب منه جميع الناس من وارد وصادر وبلدي أو غريب، وكل من يشرب منه يعطى التنبول والفوفل، ويكون ما بين القباب مفروشا بثياب الحرير، يطأ عليها مركب السلطان. وتزين حيطان الشارع الذي يمر به من باب المدينة إلى باب القصر بثياب الحرير. ويمشي أمامه المشاة من عبيده وهم آلاف. وتكون الأفواج والعساكر خلفه. ورأيته في بعض قدماته على الحضرة، وقد نصبت ثلاث أو أربع من الرعادات الصغار على الفيلة، ترمي بالدنانير والدراهم على الناس، فيلتقطونها من حين دخوله إلى المدينة حتى وصل إلى قصره. ذكر ترتيب الطعام الخاص صفحة : 225 والطعام بدار السلطان على صنفين: طعام الخاص وطعام العام. فأما الخاص فهو طعام السلطان الذي يأكل منه. وعادته أن يأكل في مجلسه مع الحاضرين، ويحضر لذلك الأمراء والخواص وأمير حاجب ابن عم السلطان وعماد الملك سرتيز، وأمير مجلس. ومن شاء السلطان تشريفه أو تكريمه من الأعزة أو كبار الأمراء دعاه فأكل معهم. وربما أراد أيضا تشريف أحد من الحاضرين، فأخذ إحدى الصحاف بيده، وجعل عليها خبزة ويعطيه اياها، فيأخذها المعطى، ويجعلها على كفه اليسرى، ويخدم بيده اليمنى إلى الأرض. وربما بعث من ذلك الطعام إلى من هو غائب عن المجلس، فبخدم كما يصنع الحاضرون، ويأكله مع من حضره. وقد حضرت مرات الطعام الخاص، فرأيت جملة الذين يحضرون له نحو عشرين رجلا. ذكر ترتيب الطعام العام وأما الطعام العام فيؤتى به من المطبخ، وأمامه النقباء يصيحون: بسم الله. ونقيب النقباء أمامهم، بيده عمود ذهب، ونائبه معه بيده عمود فضة، فإذا دخلوا من الباب الرابع، وسمع من بالمشور أصواتهم، قاموا قياما أجمعين، ولا يبقى أحد قاعدا إلا السلطان وحده. فإذا وضع الطعام بالأرض، اصطفت النقباء صفا، ووقف أميرهم وتكلم بكلام يمدح فيه السلطان ويثني عليه، ثم يخدم ويخدم النقباء لخدمته، ويخدم جميع من بالمشور من كبير و صغير. وعادتهم أنه من سمع كلام نقيب النقباء حين ذلك وقف إن كان ماشيا، ولزم موقفه إن كان واقفا، ولا يتحرك أحد، ولا يتزحزح عن مقامه، حتى يفرغ ذلك الكلام. ثم يتكلم أيضا نائبه كلاما نحو ذلك، ويخدم النقباء وجميع الناس مرة ثانية. وحينئذ يجلسون، ويكتب كتاب الباب معرفين بحضور الطعام. وإن كان السلطان قد علم بحضوره، ويعطي المكتوب لصبي من أبناء الملوك موكل بذلك، فيأتي به إلى السلطان فإذا قرأه عين من شاء من كبار الأمراء لترتيب الناس وإطعامهم. وطعامهم الرقاق والشواء والأقراص ذات الجوانب المملوءة بالحلواء، والأرز والدجاج والسمك، وقد ذكرنا ذلك وفسرنا ترتيبهم وعادتهم، أن يكون في صدر سماط الطعام القضاة والفقهاء والخطباء والشرفاء والمشايخ، ثم أقارب السلطان، ثم الأمراء الكبار، ثم سائر الناس. ولا يقعد أحد إلا في موضع معين له، فلا يكون بينهم تزاحم ألبتة. فإذا جلسوا أتي الشربدارية وهم السقاة بأيديهم أواني الذهب والفضة والنحاس والزجاج مملوءة بالنبات المحلول بالماء، فيشربون ذلك قبل الطعام. فإذا شربوا، قال الحجاب: بسم الله، ثم يشرعون في الأكل ويجعل أمام كل إنسان من جميع ما يحتوي عليه السماط، يأكل منه وحده، ولا يأكل أحد مع أحد من طبق واحد. فإذا فرغوا من الأكل أتوا بالفقاع في أكواز القصدير. فإذا أخذوه قال الحجاب: بسم الله، ثم يؤتى بأطباق التنبول والفوفل، فيعطى كل واحد غرفة من الفوفل المهشوم، وخمس عشرة ورقة من التنبول مجموعة مربوطة بخيط حرير أحمر. فإذا أخذ الناس التنبول قال الحجاب: بسم الله، فيقفون جميعا، ويخدم الأمير المعين للإطعام، ويخدمون لخدمته، ثم ينصرفون. وطعامهم مرتان في اليوم الواحد إحداهما قبل الظهر والأخرى بعد العصر. ذكر بعض أخباره في الجود والكرم وإنما أذكر منها ما حضرته وشاهدته وعاينته، ويعلم الله تعالى صدق ما أقول، وكفى به شهيدا. مع أن الذي أحكيه مستفيض متواتر. والبلاد التي تقرب من أهل الهند كاليمن وخراسان وفارس مملوءة بأخباره، يعلمونها حقيقة، ولا سيما جوده على الغرباء، فإنه يفضلهم على أهل الهند ويؤثرهم، ويجزل لهم الإحسان، ويسبغ عليهم الإنعام، ويوليهم الخطط الرفيعة، ويوليهم المواهب العظيمة. ومن إحسانه إليهم أنه سماهم الأعزة، ومنع من أن يدعوا الغرباء، وقال: إن الرجل إذا دعي غريبا انكسر خاطره وتغير حاله. وسأذكر بعضا مما لا يحصى من عطاياه الجزيلة ومواهبه ان شاء الله تعالى. ذكر عطائه لشهاب الدين الكازروني وحكايته صفحة : 226 كان شهاب الدين هذا صديقا لملك التجار الكازروني الملقب ببرويز. وكان السلطان قد أقطع ملك التجار مدينة كنباية، ووعده أن يوليه الوزارة. فبعث إلى صديقه شهاب الدين ليقدم عليه، فأتاه، وأعد هدية للسلطان، وهي سراجة من الملف المقطوع المزين بورقة الذهب، وصيوان مما يناسبها، وخباء وتابع وخباء راحة، كل ذلك من الملف المزين وبغال كثيرة. فلما قدم شهاب الدين بهذه الهدية على صاحبه ملك التجارة، وجده آخذا في القدوم على الحضرة بما اجتمع عنده من مجابي بلاده وبهدية للسلطان. وعلم الوزير خواجه جهان بما وعده به السلطان من ولاية الوزراة، فغار من ذلك وقلق بسببه. وكانت بلاد كنباية والجزرات قبل تلك المدة في ولاية الوزير، لأهلها تعلق بجانبه وانقطاع إليه وتخدم له. وأكثرهم كفار، وبعضهم عصاة يمتنعون بالجبال. فدس الوزير إليهم أن يضربوا على ملك التجار إذا خرج إلى الحضرة. فلما خرج بالخزائن والأموال ومعه شهاب الدين بهديته، نزلوا يوما عند الضحى على عادتهم، وتفرقت العساكر، ونام أكثرهم. فضرب عليهم الكفار في جمع عظيم، فقتلوا ملك التجار، وسلبوا الأموال والخزائن وهدية شهاب الدين، ونجا هو بنفسه. وكتب المخبرون إلى السلطان بذلك، فأمر ان يعطى شهاب الدين من مجبى بلاد نهروالة ثلاثين ألف دينار، ويعود إلى بلاده. فعرض عليه ذلك، فأبى من قبوله، وقال: ما قصدي إلا رؤية السلطان وتقبيل الأرض بين يديه. فكتبوا إلى السلطان بذلك، فأعجبه قوله، وأمر بوصوله إلى الحضرة مكرما. وصادف يوم دخوله على السلطان يوم دخولنا نحن عليه، فخلع علينا جميعا وأمر بإنزالنا. وأعطي شهاب الدين عطاء جزلا. فلما كان بعد ذلك أمر لي السلطان بستة آلاف تنكة، كما سنذكره، وسأل في ذلك اليوم عن شهاب الدين أين هو ? فقال له بهاء الدين ابن الفلكي: يا خوند عالم نميدا ثم، معناه ما ندري، ثم قال شنيدم زحمت دارد دار معناه سمعت أن به مرضا. فقال له السلطان: بروهمين زمان در خزانة يك لك تنكة زربكزي أوبيش أوبيري تادل أوخش خوض شود، معناه إمش الساعة إلى الخزانة، وخذ منها مائة الف تنكة من الذهب، واحملها إليه، حتى يبقى خاطره طيبا. ففعل ذلك، فأعطاه إياها. وأمر السلطان أن يشتري بها ما أحب من السلع الهندية، ولا يشتري أحد من الناس شيئا حتى يتجهز هو، وأمر له بثلاثة مواكب مجهزة من آلاتها، ومن مرتب البحرية وزادهم، ليسافر فيها. فسافر ونزل بجزيرة هرمز، وبني بها دارا عظيمة، رأيتها بعد ذلك، ورأيت أيضا شهاب الدين وقد فني جميع ما كان عنده، وهو بشيراز يستجدي سلطانها أبا إسحاق، وهكذا مال هذه البلاد الهندية؛ قلما يخرج أحد منها إلا النادر، وإذا خرج به وصل إلى غيرها من البلاد، بعث الله عليه آفة تفني ما بيده، كمثل ما اتفق لشهاب الدين هذا، فإنه أخذ له في الفتنة التي كانت بين ملك هرمز وابني أخيه جميع ما عنده، وخرج سليبا من ماله. ذكر عطائه لشيخ الشيوخ ركن الدين وكان السلطان قد بعث هدية إلى الخليفة بديار مصر أبي العباس، وطلب منه أن يبعث له أمر التقدمة على بلاد الهند والسند، اعتقادا منه في الخلافة فبعث إليه الخليفة أبو العباس ما طلبه مع شيخ الشيوخ بديار مصر ركن الدين. فلما قدم عليه، بالغ في إكرامه، وأعطاه عطاء جزلا. وكان يقوم له متى دخل عليه ويعظمه، ثم صرفه وأعطاه أموالا طائلة. وفي جملة ما أعطاه جملة من صفائح الخيل ومساميرها كل ذلك من الذهب الخالص، وقال له: إذا نزلت من البحر فأنعل أفراسك بها. فتوجه إلى كنباية ليركب البحر منها إلى بلاد اليمن، فوقعت قضية خروج القاضي جلال الدين، وأخذه مال ابن الكولمي، فأخذ أيضا ما كان لشيخ الشيوخ، وفر بنفسه مع ابن الكولمي إلى السلطان. فلما رآه قال له ممازحا: أمدى كزر كه زر بري بادكري دلر باي صنم خرى زر نيري وسر نهى، معناه جئت لتحمل الذهب، وتأكله مع الصور الحسان. فلا تحمل ذهبا، ورأسك تخليه ها هنا. قال له ذلك على معنى الانبساط، ثم قال له: اجمع خاطرك فها أنا سائر إلى المخالفين، وأعطيك أضعاف ما أخذوه لك. وبلغني بعد الانفصال عن بلاد الهند أنه وفى بما وعده، وأخلف له ما ضاع منه، وأنه وصل إلى ديار مصر. ذكر عطائه للواعظ الترمذي ناصر الدين صفحة : 227 وكان هذا الفقيه قدم على السلطان، وأقام تحت إحسانه مدة عام. ثم أراد الرجوع إلى وطنه، فأذن له في ذلك، ولم يكن سمع كلامه ووعظه. ولما خرج السلطان يقصد بلاد المعبر، أحب سماعه قبل انصرافه. فأمر أن يهيأ له منبر من الصندل الأبيض المقاصري، وجعلت مساميره وصفائحه من الذهب، وألصق بأعلاه حجر ياقوت عظيم، وخلع على ناصر الدين عباءة عباسية سوداء مذهبه مرصعة بالجوهر وعمامة أيضا، ونصب له المنبر بداخل السراجة وهي أفراج. وقعد السلطان على سريره، والخواص عن يمينه ويساره، وأخذ القضاة والفقهاء والأمراء مجالسهم. فخطب خطبة عظيمة ووعظ وذكر، ولم يكن فيما فعله طائل، لكن سعادته ساعدته. ولما نزل عن المنبر قام السلطان إليه وعانقه وأركبه على فيل، وأمر جميع من حضر أن يمشوا بين يديه، وكنت في جمعهم إلى سراجة. ضربت له مقابلة سراجة السلطان وكلها من الحرير الملون، وصيوانها من الحرير، وخباؤها كذلك. فقعد وقعدنا معه. وكان بجانب من السراجة أواني الذهب التي أعطاها له. وذلك تنور كبير بحيث يسع في جوفه الرجل القاعد، وقدران اثنتان وصحاف لا أذكر عددها وعدة أكواز وركوة وتميسندة ومائدة لها أربع أرجل ومحمل للكتب، كل ذلك من ذهب. ورفع عماد الدين السمناوي وتدين من أوتاد السراجة، أحدهما نحاس والثاني مقصدر. يوهم ذلك أنهما من ذهب وفضة، ولم يكونا إلا كما ذكرنا. وقد كان أعطاه حين قدومه مائة الف دينار دراهم، ومئتين من العبيد، سرح البعض وحمل البعض. ذكر عطائه لعبد العزيز الأردويلي وكان عبد العزيز هذا فقيها محدثا، قرأ بدمشق على تقي الدين بن تيمية، وبرهان الدين بن البركح، وجمال الدين المزي، وشمس الدين الذهبي وغيرهم. ثم قدم على السلطان، فأحسن إليه وأكرمه. واتفق يوما أنه سرد عليه أحاديث في كرم العباس وابنه رضي الله عنهما، وشيئا من مآثر الخلفاء أولادهما. فأعجب ذلك السلطان لحبه في بني العباس، وقبل قدمي الفقيه، وأمر أن يؤتى بصينية ذهب فيها ألفا تنكة، فصبها عليه بيده، وقال: هي لك مع الصينية. وقد ذكرنا هذه الحكاية فيما تقدم. ذكر عطائه لشمس الدين الأندكاني وكان الفقيه شمس الدين الأندكاني حكيما شاعرا مطبوعا، فمدح السلطان بقصيدة باللسان الفارسي، وكان عدد أبياتها سبعة وعشرين بيتا، فأعطاه لكل بيت منها ألف دينار دراهم. وهذا أعظم مما يحكى عن المتقدمين الذين كانوا يعطون على بيت شعر ألف درهم، وهو عشر عطاء السلطان. ذكر عطائه لعضد الدين الشونكاري وكان عضد الدين فقيها إماما فاضلا كبير القدر عظيم الصيت شهير الذكر ببلاده. فبلغت السلطان أخباره، وسمع بمآثره. فبعث إليه إلى بلدة شونكارة عشرة آلاف دينار دراهم ولم يره قط ولا وفد عليه. ذكر عطائه للقاضي مجد الدين ولما بلغه خبر القاضي العالم الصالح ذي الكرامة الشهيرة مجد الدين قاضي شيراز الذي سطرنا أخباره في السفر الأول، وسيمر بعض خبره. وبعد هذا بعث إليه إلى مدينة شيراز، صحبة الشيخ زاده الدمشقي عشرة آلاف دينار دراهم. ذكر عطائه لبرهان الدين الصاغرجي وكان برهان الدين أحد الوعاظ الأئمة، كثير الإيثار، باذلا لما يملكه. حتى أنه كثيرا ما يأخذ الديون، ويؤثر على الناس. فبلغ خبره إلى السلطان، فبعث إليه أربعين ألف دينار، وطلب منه أن يصل إلى حضرته. فقبل الدنانير وقضى دينه منها، وتوجه إلى بلاد الخطا، وأبى أن يصل إليه، وقال: لا أمضي إلى سلطان يقف العلماء بين يديه. ذكر عطائه لحاجي كاون وحكايته صفحة : 228 وكان حاجي كاون ابن عم السلطان أبي سعيد ملك العراق، وكان أخوه موسى ملكا ببعض بلاد العراق. فوفد حاجي كاون على السلطان، فأكرم مثواه، وأعطاه العطاء الجزل. ورأيته يوما وقد أتى الوزير خواجه جهان بهديته. وكان منها ثلاث صينيات، إحداها مملوءة يواقيت، والأخرى مملوءة زمردا، والأخرى مملوءة جواهر. وكان حاجي كاون حاضرا، فأعطاه من ذلك حظا جزيلا، ثم إنه اعطاه أيضا مالا عريضا، ومضى يريد العراق، فوجد أخاه قد توفي، وولي مكانه سليمان خان. فطلب إرث أخيه، وادعى الملك، وبايعه العسكر، وقصد بلاد فارس، ونزل بمدينة شونكارة التي بها الإمام عضد الدين الذي تقدم ذكره آنفا. فلما نزل بخارجها تأخر شيوخها عن الخروج إليه ساعة، ثم خرجوا. فقال لهم: ما منعكم عن تعجيل الخروج إلى مبايعتنا ? فاعتذروا له. فلم يقبل منهم، وقال لأهل سلاحه: قلنج تجار جقار معناه جردوا السيوف. فجردوها، وضربوا أعناقهم، وكانوا جماعة كبيرة. فسمع من بجاور هذه المدينة من الأمراء بما فعله، فغضبوا لذلك، وكتبوا إلى شمس الدين السنماني، وهو من الأمراء الفقهاء الكبار، فأعلموه بما جرى على أهل شونكارة، وطلبوا منه الإعانة على قتاله. فتجرد في عساكره، واجتمع أهل البلاد طالبين بثار من قتله حاجي كاون من المشايخ، وضربوا على عسكره ليلا فهزموه. وكان هو بقصر المدينة، فأحاطوا به، فاختفى في بيت الطهارة، فعثروا عليه وقطعوا رأسه، وبعثوا به إلى سليمان خان، وفرقوا أعضاءه على البلاد تشفيا منه. ذكر قدوم ابن الخليفة عليه واخباره صفحة : 229 وكان الأمير غياث الدين محمد بن عبد القاهر بن يوسف بن عبد العزيز ابن الخليفة المستنصر بالله العباسي البغدادي، قد وفد على السلطان علاء الدين طرمشيرين، ملك ما وراء النهر، فأكرمه وأعطاه الزاوية التي على قبر قثم بن العباس رضي الله عنهما، واستوطن بها أعواما. ثم لما سمع بمحبة السلطان في بني العباس، وقيامه بدعوتهم، أحب القدوم عليه، وبعث له برسولين، أحدهما صاحبه القديم محمد ابن أبي الشرفي الحرباوي، والثاني محمد الهمداني الصوفي. فقدما على السلطان، وكان ناصر الدين الترمذي الذي تقدم ذكره، قد لقي غياث الدين ببغداد، وشهد لديه البغداديون بصحة نسبه فشهد هو عند السلطان بذلك. فلما وصل رسولاه إلى السلطان، أعطاهما خمسة آلاف دينار، وبعث معهما ثلاثين ألف دينار إلى غياث الدين، ليتزود بها إليه، وكتب له خطابا بخط يده يعظمه فيه، ويسأل منه القدوم عليه. فلما وصل الكتاب رحل إليه. فلما وصل إلى بلاد السند، وكتب المخبرون بقدومه، بعث السلطان من يستقبله على العادة. ثم لما وصل إلى سرستي بعث أيضا لاستقباله صدر الجهان قاضي القضاة كمال الدين الغرنوي وجماعة من الفقهاء، ثم بعث الأمراء لاستقباله. فلما نزل بمسعود آباد خارج الحضرة، خرج السلطان بنفسه لاستقباله. فلما التقيا ترجل غياث الدين، فترجل له السلطان، وخدم، فخدم له السلطان. وكان قد استصحب هدية في جملتها ثياب، فأخذ السلطان أحد الأثواب، وجعله على كتفه، وخدم كما يفعل الناس معه، ثم قدمت الخيل،فأخذ السلطان أحدها بيده وقدمه له، وحلف أن يركب، وأمسك بركابه حتى ركب، ثم ركب السلطان وسايره، والشجر يظلهما معا. وأخذ التنبول بيده، وأعطاه أياه. وهذا أعظم ما أكرمه به. فإنه لا يفعله مع أحد. وقال له: لولا أني بايعت الخليفة أبا العباس لبايعتك. فقال له غياث الدين: وأنا أيضا على تلك البيعة. وقال له غياث الدين: قال رسول الله ﷺ تسليما: من أحيا أرضا مواتا فهي له وأنت أحببتنا. فجاوبه السلطان بألطف جواب وأبره. ولما وصلا إلى السراجة المعدة لنزول السلطان، أنزله فيها. وضرب للسلطان غيرها. وباتا في تلك الليلة بخارج الحضرة. فلما كان بالغد دخلا إلى دار الملك، وأنزله بالمدينة المعروفة بسيري، وبدار الخلافة أيضا في القصر الذي بناه علاء الدين الخلجي، وابنه قطب الدين. وأمر السلطان جميع الأمراء أن يمضوا معه إليه، وأعد له فيه جميع ما يحتاج إليه من أواني الذهب والفضة، حتى كان من جملتها مغتسل يغتسل فيه من ذهب. وبعث له أربعمائة ألف دينار لغسل رأسه على العادة، وبعث له جملة من الفتيان والخدم والجواري، وعين له عن نفقة في كل يوم ثلاثمائة دينار، وبعث له زيادة إليها عددا من الموائد بالطعام الخاص، وأعطاه جميع مدينة سيري، إقطاعا. وجميع ما احتوت عليه من الدور وما يتصل لها من بساتين المخزن وأرضه، وأعطاه مائة قرية، وأعطاه حكم البلاد الشرقية المضافة لدهلي، وأعطاه ثلاثين بغلة بالسروج المذهبة، ويكون علفها من المخزن، وأمره أن لا ينزل عن دابته إذا أتى دار السلطان إلا موضعا خاصا لا يدخله أحد رلكبا سوى السلطان وأمر الناس جميعا من كبير وصغير أن يخدموا له كما يخدمون السلطان. وإذا دخل على السلطان ينزل له عن سريره، وإن كان على الكرسي قام قائما، وخدم كل واحد منهما لصاحبه، ويجلس مع السلطان على بساط واحد، وإذا قام قام السلطان لقيامه، وخدم كل واحد منهما لصاحبه، وإذا انصرف إلى خارج المجلس، جعل له بساط يقعد عليه ما شاء، ثم ينصرف، يفعل هذا مرتين في اليوم. حكاية من تعظيمه اياه وفي أثناء مقامه بدهلي قدم الوزير من بلاد بنجالة، فأمر السلطان كبار الأمراء أن يخرجوا إلى استقباله، ثم خرج بنفسه إلى استقباله، وعظمه تعظيما كثيرا، وصنعت القباب بالمدينة كما تصنع للسلطان إذا قدم، وخرج ابن الخليفة للقائه أيضا، والفقهاء والقضاة والأعيان. فلما عاد السلطان لقصره، قال للوزير: إمض إلى دار المخدوم زاده، وبذلك يدعوه، ومعنى ذلك ابن المخدوم. فسار الوزير إليه، وأهدى له ألفي تنكة من الذهب وأثوابا كثيرة. وحضر الأمير قبولة، غيره من كبار الأمراء، وحضرت أنا كذلك. حكاية نحوها صفحة : 230 وفد على السلطان ملك غزنة المسمى ببهرام، وكان بينه وبين ابن الخليفة عداوة قديمة فأمر بإنزاله ببعض دور مدينة سيري التي لابن الخليفة، وأمر أن يبني له بها دار فبلغ ذلك ابن الخليفة فغضب منه ومضى إلى دار السلطان فجلس على البساط الذي عادته الجلوس عليه، وبعث إلى الوزير، فقال له: سلم على خوند عالم، وقل له: إن جميع ما أعطانيه هو بمنزلي، لم أتصرف في شيء منه، بل زاد عندي ونما وأنا لا أقيم معكم، وقام وانصرف فسأل الوزير بعض أصحابه عن سبب هذا، فأعلمه أن سببه أمر السلطان ببناء الدار لملك غزنة في مدينة سيري، فدخل الوزير على السلطان فأعلمه بذلك، فركب من حينه في عشرة من ناسه، وأتى منزل ابن الخليفة، فاستأذن له، ونزل عن فرسه خارج القصر حيث ينزل الناس، فتلقاه واعتذر له، فقبل عذره، وقال له: السلطان والله ما أعلم أنك راض عني حتى تضع قدمك على عنقي، فقال له: هذا ما لا أفعله ولو قتلت. فقال له السلطان وحق رأسي لا بد لك من ذلك ثم وضع رأسه على الأرض وأخذ الملك الكبير قبولة رجل ابن الخليفة بيده، فوضعها على عنق السلطان ثم قام وقال: الآن أنك راض علي، وطاب قلبي. وهذه حكاية غريبة لم يسمع بمثلها عن ملك. ولقد حضرته يوم عيد وقد جاءه الملك الكبير بثلاث خلع من عند السلطان مفرجة. قد جعل مكان عقد الحرير التي تعلق بها حبات جوهر قدر البندق الكبير، وقام الملك الكبير ببابه، حتى نزل من قصره، فكساه إياه والذي أعطاه هو ما لا يحصر العد، ولا يحيط به الحد، وابن الخليفة مع ذلك كله أبخل خلق الله تعالى وله في البخل أخبار عجيبة، يعجب منها سامعها وكأنه كان من البخل بمنزلة السلطان من الكرم، ولنذكر بعض أخباره في ذلك. حكاية عن بخل ابن الخليفة وكانت بيني وبينه مودة، وكنت كثير التردد إلى منزله وعنده تركت ولدا لي سميته أحمد لما سافرت ولا أدري ما فعل الله بهما فقلت له يوما: لم تأكل وحدك، ولا تجمع أصحابك على الطعام ? فقال لي: لا أستطيع أن أنظر إليهم على كثرتهم وهم يأكلون طعامي فكان يأكل وحده، ويعطي صاحبه محمد ابن أبي الشرفي من الطعام لمن أحب، ويتصرف في باقيه وكنت أتردد إليه فأرى دهليز قصره الذي يسكن به مظلما لا سراج به. ورأيته مرارا يجمع الأعواد الصغار من الحطب بداخل بستانه، وقد ملأ منها مخازن فكلمته في ذلك فقال لي: يحتاج إليها. وكان يخدم أصحابه ومماليكه وفتيانه في خدمة البستان وبنائه ويقول: لا أرضى أن يأكلوا طعامي وهم لا يخدمون. وكان علي مرة دين فطلبت به فقال لي في بعض الأيام: والله لقد هممت أن أؤدي عنك دينك، فلم تسمح نفسي بذلك، ولا ساعدتني عليه.

طوق الحمامة نسخة تحتاج تنميق

      ​طوق الحمامة​ المؤلف ابن حزم     المقدمة     باب تقسيم الرسالة ←     قال أبا محمد عفا الله عنه: أفضل ما أبتدئ به حمد الله عز وجل بما ه...